فساد المجتمع
الجزء الثانى
- 1 -
بعد وقت ليس بقصير أتى سعيد لداود وأبلغه أن مناقصة الترميمات قد أعلنت عنها هيئة الأبنية ، ما عليه إلا أن يكلف أحد مهندسى المكتب بالذهاب إلى الهيئة لإحضار الأوراق الخاصة بها ، ثم معاينة المبانى التى سترمم وعمل ميزانية لها ، والتقدم بالعطاء فقط ويترك الباقى على سعيد ، وطمأنه أنه مستعد للدفع بهذه المناقصة وجعلها هى الأولى .
بالفعل تقدم داود بالعطاء لهيئة الأبنية ، وقبل التقدم كان قد أبلغ سعيد بذلك ، وراح يسعى بدوره إلى نشأت الذى لم يتحرج من أن يطلب من سعيد ما يريد نظير إرساء المناقصة علي مكتب داود ، ولم ينسى سعيد أيضا أن يزيد فى الخفاء ما يزيد ، ثم يطلب المبلغ مضاعف من داود الذى لا يرد لسعيد أى كلمة ولا يراجعه ، فإن ما ينفقه يعود عليه بأكثر مما ينفق .
يوم أن رست المناقصة على داود ، كان سعيد أول من بارك ، وقال له أن المقاول الذى سيأخذ هذا العمل من الباطن جاهز وعلى أتم الاستعداد .
وكان هذا هو رأى مهندسى المكتب بعد أن استشارهم داود
وافق بدون جدال ، حيث علم من أحد مراقبى العمل أن الهيئة فى طريقها لطرح مناقصة بناء أخرى ، أكبر وأوسع من التى يعمل بها الحين ، ولا بد له من أن يكرس كل جهده للفوز بهذه المناقصة ، ولا يجعلها تذهب لغيره .
وما أن انتهى من الاجتماع وصار وحده اتصل بسعيد ، كى يأتى له بالمقاول الذى سيأخذ منه مناقصة الترميمات للاتفاق معه ، ولم ينسى أن يقول لسعيد أنه إذا أخذ المقاول هذه المناقصة ، سيقوم داود بالمرور عليه عدت مرات بموقع العمل ، حتى يبدوا أنه هو الذى يقوم بالعمل أمام المراقبين .
كان المقاول يعى ذلك جيداً ولم يبدى أى اعتراض عند عرض ذلك عليه ، وشكر لسعيد موقفه هذا معه وحمد داود كثيراً ، مع أنه أخذ المناقصة بثلثى المبلغ المقرر لها وهو يعلم أنها ستدر عليه ربح لا بأس به .
رغم كل هذه المعاملات وحسن الإدارة التى يتميز بها داود ، إلا أنك إذا جلست بينهم هو وزوجته اعتماد رزق شديد وولده ممتاز وابنته امتياز ، تشعر كأن هذه الأسرة لا تقيم معا فى شقة واحدة ، ولا تجمعهم رابطة لا حوار ولا نقاش حول أى موضوع صمت مطبق ، كل فرد منهم فى طريق مختلف عن الأخر لا اهتمام ولا تشاور ، الألفة منعدمة والود منقطع والمعروف ليس له سبيل بينهم ، فداود كما أنه غريب فى الحى والشارع غريب أيضا داخل شقته وسكنه ، نادراً ما يأخذهم فى نزهة وليس له أصدقاء يودهم ويودنه حياة قاتمة منعدمة الألوان .
تقابل داود بسعيد وأسر إليه سعيد أنه من الواجب عليه أن يقوم بدعوة العقيد سيد الدفراوى ، لسهرة أو أن يقوم بزيارته فى بيته ويعد لذلك هدية قيمة لأبنت العقيد ، وأن الزيارة له أفضل مع الهدية ، تململ داود عند سماع كلمت الهدية ، وأصر سعيد على ذلك وعلل هذا بأنه أصبح فى قلب أعمال كثيرة وكبيرة ، وليس له إلا هذا الرجل يقوى به ويرتكن عليه عند اللزوم وقال له .
ـ الشىء لزوم الشىء يأخى .
وفى النهاية أقتنع داود وطلب منه أن يحدد له يوم لزيارته ، حتى لا يذهبان هكذا دون سابق علم .
ويوم أن ذهبا إليه أستقبلهم الرجل بحفاوة بالغة ، وأبتسم ابتسامة عريضة وهو يرى داود يخرج الهدية التى قدمها له استقبلها العقيد قائلا .
ـ ما هذه ؟
انحى داود قليلا ونظر إلى تحت قدميه وقال .
ـ شىء بسيط سيادتكم .. فأنا فى حيرة من أمرى ماذا أقدم لكم .
لبس العقيد قناع الجد والهدوء على وجهه وقال .
ـ معرفتى بك أفضل من كل شىء .
ابتسم داود وقال .
ـ معرفتى بك ومعرفتك بى هديتنا .. ولكن هذه هدية أبنت سيادتكم .
شكره العقيد ودعاهما للجلوس هو وسعيد الذى بدأ فى حديث ، لا يمل منه ولا يكف لسانه عنه ، وذهب يشرح للعقيد كيف أن داود ألح عليه كثيراً ، حتى يحظى بالزيارة والتشرف بالجلوس معه بأى طريقة ، وكيف أن داود يتمنى أن يكون بالقرب منه وإلى جواره ، فى أى مكان كان سواء بالزيارة أو دعوته فى أى مكان يحدده ، وداود يسمع وبين الحين والحين ينظر إليه متعجباً من قوله ، وكيف جاء بكل هذا من عنده ! .. وود لو ينصرف من فوره ويتركهما لكنه أثر الجلوس وهو يتضجر وغير راضى بما يقوله سعيد ، ومع ذلك يهز رأسه بالموافقة دون إرادته ، ثم أكمل سعيد حديثة أن داود يفكر فى دعوة سيادته والأسرة لتشريفه بشقته ، وللتعارف على أسرة داود وكم تغيرت ملامح داود كثيرا لهذا الحديث لكنه ظل يلوذ بالصمت .
قال العقيد بطبيعته الجادة الصارمة .
ـ أنا أشكر له ذلك .. لكن طبيعة عملى تأخذ كل يومى .. وليس فى الوقت متسع .. وإن سنحت فرصة سأكون تحت أمركم .
لم يطول الوقت بهم فى هذه الزيارة ، وحاول داود أن لا يطول أكثر من ذلك ، فما أن انتهى من الشراب ، انتظر قليلا واستأذن بالانصراف .
كانت هناك قصة بدأت تنسج خيوطها من خلف ظهر سعيد ، وهى تعلق أبنه وليد بسعاد أبنت نشأت موظف هيئة الأبنية ، بدأ الأمر بسيط فى أوله وهو سعى الولد للتعرف عليها وفتح قناة للتعارف والحديث ، ولو كان عن طريق الهاتف ، وكان المتاح له أن يذهب ليراها فقط أمام جامعتها دون أن تلمحه ، إنه الشباب وأمنياته والقلب وإلحاحه الكثير فى هذا السن ، فأنه يقود ولا يقاد ويسعى بترقب وخوف من أن يعلم أحد ، فمع قوت الحب فى هذه المرحلة إلا أنه يغلفها حذر ، قد يقوده الاندفاع والتسرع دون أن يشعر المحب بذلك .
فقد يظن أنه على حذر لكنه متسرع وقد يرى أنه يراقب ولا يراه أحد ، وفى نفس اللحظة مراقب هو الأخر من غير أن يعلم .
تردد وليد كثيرا أمام جامعة البنت ، ومن كثرة تردده لمحته وتذكرته أنه ابن سعيد ، وحاولت أن تتذكر أسمه فلم تستطع ، لم تتذكر سوى أنه ابن سعيد العبد فقط .
عرفته يوم أن كانوا بضيافتهم ، وتذكرت لحظة أن أشاحت لها أمها ، بأن لا تطيل النظر حتى لا ينتبه أحد لهما .
ثم همست لنفسها .
ـ سأتركه يكرر هذا ولا أعيره انتباهى .. من المؤكد أننا سنزورهم وهم يزورنا .. فليكن السعى للمقابلة بعد عدة زيارات .
مع الأيام نحكى فنحن لا نحكى الأيام بل هى التى تحكينا ، واليوم بعد اليوم قصة لماضينا ، فهل كل إنسان قادر بأن يأتى بكل ما حدث فيها ، وإن حاول أن يأتى بكل صغيرة وكبيرة ، فمن المؤكد أنه سيخفى عليه بعض ما حدث فيها .