فساد المجتمع
الجزء الأول
- 1 -
فى أغلب الأحيان بالقرى والمدن والأحياء المتوسطة والشعبية ، إن وفد إليهم وافد جديد كساكن يسعى البعض أو الكل ، لمعرفة من هو ؟ .. ومن يكون ؟ .. ومن أين أتى ؟ ، والتحرى عن كل تفاصيل وملابسات حياته صغيرة كانت أم كبيرة ، فهى عنوانه تدل عليه وخلفية لأهل المكان الوافد عليه ، تمكنهم من التعامل معه .
أما بعض الأحياء بالمدن الكبيرة وهى التى نطلق عليها أو نسميها بالأحياء الراقية ، نادراً ما يعلم أهل هذه الأحياء عن بعضهم البعض إلا القليل وقليل القليل أيضا ، لا يعلمون من سكن إلى جوارهم ولا من رحل ، ولا يسعى أحدا منهم للبحث عن الوافد إن وفد ، ولا يعيروه أى انتباه حتى وإن أراد أن يعبر هو عن نفسه ، فلا يجد لذلك صدى .
أما هذا الحى المتوسط الذى وفد عليه ـ داود عبد النعيم خضر ـ فهم يهتمون ويعيرون لهذا بعض من الاهتمام ، ففى يوم وليلة إذ بهذا الرجل ، يسكن شقة بإحدى عمارات هذا الشارع الفرعى ، الذى به بعض المحال التجارية القليلة ، لكنها مزدحمة بالمشترين إلى ما بعد عصر كل يوم ، ما أن يحل عليهم المغرب ترى أصحاب هذه المحال ، وبعض من سكان الشارع يجلسون أمام المحال وبجوار العمارات مع ترك مداخل العمارات بعيد عن جلوسهم .
انتبه هؤلاء الجلوس لهذا الرجل حين مر من أمامهم عدت أيام ، ويصعد عمارة من العمارات ، بعد أن أثار حفيظتهم بعدم التقرب إليهم ، قالو لبعضهم البعض .
ـ نسأل عنه .
ثم صمتوا قليلاً وقال أحدهم .
ـ نسأل من ؟
وأشار أخر أن يتحسس السمسار القريب ، عندما سألوا السمسار أخبرهم أنه لا يعلم عنه شئ سوى أسمه فقط ، أما من أين هو ؟ ما هى طبيعة عمله ؟ لا يعلم ! ، إلا أنه كلفه وأوصاه ، أن يبحث له عن شقة أخرى بأحد الأحياء الراقية ، ولا يعلم ما ينوى عليه ! ، أو ماذا سيفعل لم يخبره ! .
المجهول خطر إن لم يكن لديك خبر عنه ومعرفة وافية ، والغريب إما ظالم أو مظلوم ، ومن الخطأ أن تترك الأمور هكذا ، من غير أن تعلم عنه ولو القليل ، وما يكنه صدره أو تحتويه سريرته ، ليكن دلاله لاتقاء شره ، إن كان من أهله ، أو حافز فى الإسراع لتقديم يد العون له ، إن كان من أهل الخير .
كانت من سمة داود عبد النعيم خضر ، لا يلقى بالتحية ولا يبتسم إلا قليل ، ولا يلتفت إلا لمن حياه ، يقضى أكثر الوقت بالشقة ، إن خرج لا يخرج إلا لطلب أو لحاجة له ،لا يدع مجال لأحد أن يتحدث معه ، حتى أن الجمع الذى يجتمع بعد كل مغرب على أطراف الشارع ، دعوه أكثر من مرة للجلوس معهم ، فكان يعتذر بأدب ويمضى لحاله ، يمتلك سيارة متوسطة العمر يستعملها إذا كان معه أحد أفراد الأسرة ، أما إن كان وحده فيستقل المواصلات العامة .
هذا الرجل ماضيه مجهول لكل من أراد أن يعرف من أهل الشارع وسكان العمارة ، وهو لا يتحدث عنه ولا يخبر به أحد ، ثرى ولا أحد يعرف عنه ذلك حتى أسرته ، لقد جمع أكثر من مليونى جنيه ، زوجة والأولاد لا يعلمون مقدار هذه الثروة ! ، ولا من أين اكتسبها ؟ ولا كيف ؟ ! لم يبح بهذا لأحد ، حياته كلها أسرار وتعقيدات لا تستطيع أن تخترق السياج الذى أحاط به نفسه ، لا يفضى إليك بسر إلا ما يريده هو ، ولا يجيبك على سؤال يرى فيه أنه تدخل فى حياته .
المتحدث إليه وعنه هو السمسار ، ومع ذلك له معه حدود أيضا ، لا يتكلم معه إلا فى المهمة المكلف بها ، حتى الشقة الثانية سائله لماذا يريدها ؟ فلم يجيبه !
وقال له بهدوء ممل .
ـ عندما تجدها سأخبرك!!
وما أن عثر السمسار على الشقة التى يريدها داود أتاه مبشرا ، وأسرع معه إلى حيث الشقة وعاينها ، تفقد كل مكان بها وموقعها الذى أسعده كثيراً .
بعد إتمام التعاقد أجزل داود العطاء للسمسار الذى قال لداود وهو مبتسم .
ـ لم يذهب تعبى معك سدى .
طلب منه داود أن لا يتركه ، لأنه لا يعرف أى إنسان
غيره ، يريده أن يكون إلى جواره ليجده وقتما يشاء ، تحسس منه السمسار ماذا سيفعل بهذه الشقة ، ففتح داود صدره ، همس له أنه يريدها لتكون مقر مكتب مقاولات بناء ترميمات هدم .
تبدلت وتغيرت ملامح السمسار للحظات ، ثم انفرجت أساريره وقال وهو يتعجل القول .
ـ ذلك سيتطلب منك استخراج تصاريح وتراخيص
وأيضا استصدار سجل .
قال داود بهدوء .
ـ نعم سأحتاج لكل ذلك .
قال السمسار بلهجة المتمكن .
ـ هل تستطيع القيام باستخراج كل هذا وحدك ؟
هز داود رأسه وقال .
ـ لا أستطيع .
تمهل السمسار بعض الوقت وقال باهتمام .
ـ أعرف لك رجل يساعدك كثيرا فى استخراج كل هذه
الأوراق .
قال داود بتؤدة .
ـ احضره لى فإنا فى حاجةً لمثل هذا الرجل .
قال السمسار بحزم .
ـ هل ستتحمل نفقاته ؟
ـ نعم سأتحمل كل ما يريد ويطلب .
ـ اعطنى مهلة حتى أصل إليه .
أمسك داود بزراع السمسار برفق وقال .
ـ بعد إذنك عندما تأتنى به اتركنا معا وأذهب ولن أنساك .
قال السمسار والابتسامة تملأ وجهه .
ـ اتفقنا .
تركه السمسار ومضى ظل داود وحده بالشقة الجديدة ، يتفقد كل غرفها ويتطلع من نوافذها ، ليرى كيف سيكون تنظيمها ، ويحدث نفسه أين سيكون مكتب المدير ؟ أى غرفة يخصصها لمكتب المهندسين ؟ ، ومكتب الموظفين الإداريين !!، ينظم ويرتب ويحلم كيف تصبح بحق مكتب مقاولات !!، يتطلع من النوافذ ليحدد ، أين سيضع لوحة الإعلان عن اسم المكتب ؟ ، بعد أن قضى وقت كبير وهو لا يشعر أفاق مما هو فيه ، أغلق الشقة ومضى إلى سكنه وظل ينتظر السمسار متى سيأتى ؟ ، كان سعيد جداً بالسمسار، لأنه بكل سهولة ويسر ، طرف خيط من خيوط ألعنكبوت المتشابكة مع بعضها البعض ، تيسر له الاحتيال فى أخذ ما يريد من غير رادع ، سلسلة تبدأ بحلقة صغيرة ، ثم تنتقل بك حلقةً حلقة إلى أن تصل لأكبر حلقة مادام رنين المال بالأذنين وحبه يمتلك القلب .
يتبع بعده