غزوة بدر الكبرى
رقم -2
الجيش الأسلامى يواصل سيره :
ثم ارتحل رسول الله من ذفران . فسلك على ثنايا يقال لها : الأصفر . ثم انحط منها الى بلد يقال له : الدبة . وترك الحنان بيمين – وهو كثيب عظيم كالجبل – ثم نزل قريبا من بدر .
الرسول يقوم بعملية الاستكشاف :
وهناك قام صلى الله عليه وسلم بنفسه بعملية الاستكشاف مع رفيقه فى الغار أبى بكر الصديق رضى الله عنه ، وبينما هما يتجولان حول معسكر مكة إذا هما بشيخ من العرب ، فسأله رسول الله عن قريش وعن محمد وأصحابه – سأل عن الجيشين زيادة فى التكتم – ولكن الشيخ قال : لا أخبركما حتى تخبرانى ممن أنتما ؟ فقال رسول الله ( إذا أخبرتنا أخبرناك ) ، قال : أو ذاك بذاك ؟ قال : ( نعم ) .
قال الشيخ : فإنه بلغنى أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان صدق الذى أخبرنى فهم اليوم بمكان كذا وكذا – للمكان الذى به جيش المدينة . وبلغنى أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان صدق الذى أخبرنى فهم اليوم بمكان كذا وكذا – للمكان الذى به جيش مكة .
ولما فرغ من خبره قال : ممن أنتما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نحن من ماء ) ثم انصرف عنه ، وبقى الشيخ يتفوه : أمن ماء ؟ أمن ماء عرق ؟
الحصول على أهم المعلومات عن الجيش المكى :
وفى مساء ذلك اليوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم استخباراته من جديد ليبحث عن أخبار العدو ، وقام لهذه العملية ثلاثة من قادة المهاجرين ؛ على بن أبى طالب والزبير بن العوام وسعد ابن أبى وقاص فى نفر من أصحابه ، ذهبوا إلى ماء بدر فوجدوا غلامين يستقيان لجيش مكة ، فألقوا عليهما القبض ، وجاءوا بهما إلى رسول الله وهو فى الصلاة ، فاستخبرهما القوم ، فقالا : نحن سقاة جيش قريش ، بعثونا نسقيهم من الماء ، فكره القوم ، ورجوا أن يكونا لأبى سفيان – لا تزال فى نفوسهم بقايا أمل فى الاستيلاء على القافلة – فضربوهما ضربا موجعا حتى اضطر الغلامان أن يقولا : نحن لأبى سفيان فتركوهما .
ولما فرغ الرسول من الصلاة قال لهما كالعاتب : ( إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما ، صدقا والله ، إنهما لقريش )
ثم خاطب الغلامين قائلاً : ( أخبرانى عن قريش ) ، قالا : هم وراء هذا الكثيب الذى ترى بالعدوة القصوى ، فقال لهما : ( كم القوم ؟ ) قالا : كثير . قال : ( ما عدتهم ؟ ) قالا : لا ندرى ، قال : ( كم ينحرون كل يوم ؟ ) قالا : يوماً تسعا ويوماً عشراً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( القوم فيما بين التسعمائة إلى الألف ) ، ثم قال لهما : ( فيمن فيهم من أشراف قريش ؟ ) قالا : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبى البَخْتَرىّ بن هشام ، وحكيم بن حزام ، ونوفل ابن خويلد ، والحارث بن عامر ، وطُعَيْمَة بن عدى ، والنضر بن الحارث ، وزمعة بن الأسود ، وأبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف فى رجال سمياهم .
فأقبل رسول الله على الناس فقال : ( هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها )
نزول المطر :
وأنزل الله عز وجل فى تلك الليلة مطراً واحداً ، فكان على المشركين وابلاً شديداً منعهم من التقدم ، وكان على المسلمين طلا طهرهم به ، وأذهب عنهم رجس الشيطان ، ووطأ به الأرض ، وصلب به الرمل ، وثبت الأقدام ، ومهد به المنزل ، وربط به على قلوبهم .
الجيش الإسلامى يسبق إلى أهم المراكز العسكرية :
وتحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه ليسبق المشركين إلى ماء بدر ، ويحول بينهم وبين الاستيلاء عليه ، فنزل عشاء أدنى ماء من مياه بدر ، وهنا قام الخُبَاب بن المنذر كخبير عسكرى وقال : يا رسول ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزلا أنزلكه الله ، وليس لنا أن نتقدم ولا نتأخر عنه ؟ أم هو الرأى والحرب والمكيدة ؟ قال : ( بل هو الرأى والحرب والمكيدة )
قال : يا رسول الله ، إن هذا ليس بمنزل ، فأنهض بالناس حتى نأتى ماء من القوم – قريش – فننزله ونغور – أى نُخَرّب – ماء وراءه من القلب ، ثم نبنى عليه حوضاً ، فنملأه ماء ، ثم نقاتل القوم ، فنشرب ولا يشربون ، فقال رسول الله : ( لقد أشرت بالرأى )
فنهض رسول الله بالجيش حتى أتى أقرب ماء من العدو ، فنزل عليه شطر الليل ، ثم صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من القلب .
مقر القيادة :
وبعد أن تم نزول المسلمين على الماء اقترح سعد بن معاذ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى المسلمون مقراً لقيادته ؛ استعداداً للطوارئ ، وتقديراً للهزيمة قبل النصر ، حيث قال : يا نبى الله ، ألا نبنى عريشاً تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ، ثم نلقى عدونا ، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا ، فقد نخلف عنك أقوام يا نبى الله ما نحن بأشد لك حبا منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك ، يمنعك الله بهم ، يناصحونك ويجاهدون معك .
فأثنى رسول الله خيراً ودعا له بخير ، وبنى المسلمون عريشاً على تل مرتفع يقع فى الشمال الشرقى لميدان القتال ، ويشرف على ساحة المعركة .
كما تم اختار فرقة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون رسول الله حول مقر قيادته .
تعبئة الجيش وقضاء الليل :
ثم عبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه . ومشى فى موضع المعركة ، وجعل يشير بيده : ( هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله ) . ثم بات رسول الله يصلى إلى جزع شجرة هنالك ، وبات المسلمون ليلهم هادئى الأنفاس منيرى الآفاق ، غمرت الثقة قلوبهم ، وأخذوا من الراحة قسطهم ؛ يأملون أن يروا بشائر ربهم بعيونهم صباحا .
كانت هذه الليلة ليلة الجمعة ، السابعة عشرة من رمضان فى السنة الثانية من الهجرة وكان خروجه صلى الله عليه وسلم فى 8 أو 12 من نفس الشهر .
الجيش المكى فى عرصة القتال ، ووقوع الإنشقاق فيه :
أما قريش فقضت ليلتها هذه فى معسكرها بالعدوة القصوى ، ولما أصبحت أقبلت فى كتائبها ، ونزلت من الكثيب إلى وادى بدر . وأقبل نفر منهم إلى حوض رسول الله فقال : ( دعوهم ) ، فما شرب أحد منهم يومئذ إلا قتل ، سوى حكيم بن حزام ، فإنه لم يقتل ، وأسلم بعد ذلك ، وحسن إسلامه ، وكان إذا اجتهد فى اليمين قال : لا والذى نجانى من يوم بدر .
فلما اطمأنت قريش بعثت عُمَيْر بن وهب الجُمَحىِ للتعرف على مدى قوة جيش المدينة فدار عُمير بفرسه حول المعسكر ، ثم رجع إليهم فقال : ثلاثمائة رجل ، يزيدون قليلاً أو ينقصون ، ولكن أمهلونى حتى أنظر اللقوم كمين أو مدد ؟
فضرب فى الودى حتى أبعد، فلم ير شيئا ، فرجع إليهم فقال : ما وجدت شيئا ولكنى قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم ، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم ، فإذا أصابوا منكم أعدادكم فما خير العيش بعد ذلك ؟ فروا رأيكم .
وحينئذ قامت معارضة أخرى ضد أبى جهل – المصمم على المعركة – تدعو إلى العودة بالجيش إلى مكة دونما قتال ، فقد مشى حكيم بن حزام فى الناس ، وأتى عتبة ابن ربيعة فقال : يا أبا وليد ، إنك كبير قريش وسيدها ، والمطاع فيها ، فهل لك إلى خير تذكر به إلى أخر الدهر ؟ قال : وما ذاك يا حكيم ؟ قال : نرجع بالناس ، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمى – المقتول فى سرية نخلة – فقال عتبة : قد فعلت . أنت ضامن على بذلك . إنما هو حليفى ، فعلى عقله ( ديته ) وما أصاب من ماله .
ثم قال عتبة لحكيم بن حزام : فائت ابن الحَنْظَلِيَّةِ – أبا جهل ، والحنظلية أمه – فإنى لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره.
ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبا فقال : يا معشر قريش ، إنكم ما والله تصنعون بأن يلقوا محمداً وأصحابه شيئأ ، والله لئن اصبتموه لا يزال الرجل ينظر فى وجه رجل يكره النظر إليه ، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلاً من عشيرته ، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب ، فإن أصابوه فذاك الذى أردتم ، وإن كان غير ذلك ألْفَاكُم ولم تعرضوا منه ما تريدون .
وانطلق حكيم بن حزام إلى أبى جهل – وهو يهيئ درعاً له – قال : يا أبا الحكم ، إن عتبة أرسلنى بكذا وكذا ، فقال أبو جهل : انتفخ والله سحره حين رأى محمداً وأصحابه ، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، وما بعتبة ما قال ، ولكنه قد رأى أن محمداً وأصحابه أكلة جَزُور ، وفيهم ابنه – وهو أبو حذيفة بن عتبة كان قد أسلم قديما وهاجر – فَتَخَوفكُمْ عليه .
ولما بلغ عتبة قول أبى جهل : انتفخ والله سحره ، قال عتبة : سيعلم مُصفر استه من انتفخ سحره ، أنا أم هو ؟ وتعجل أبو جهل ، مخافة أن تقوى هذه المعارضة ، فبعث على إثر هذه المحاورة إلى عامر بن الحضرمى – أخى عامر بن الحضرمى المقتول فى سرية عبد الله بن جحش – فقال : هذا حليفك ( أى عتبة ) يريد أن يرجع بالناس ، وقد رأيت ثأرك بعينيك ، فقم فأنشد خفرتك ، ومقتل أخيك ، فقام عامر فكشف عن استه وصرخ : واعمراه ، واعمراه ، فحمى القوم ، وحقب أمرهم ، واستوثقوا على ما هم عليه من الشر ، وأفسد على الناس الرأى الذى دعاهم إليه عتبة ، وهكذا تغلب الطيش على الحكمة ، وذهبت هذه المعارضة دون جدوى .
طائر الليل