ليلة ممطرة
التف حول جمر النار مع أبيه وأمه وأخوته يتحسسون الدفيء ، والبرق في الخارج يلمع في الفضاء والسماء تزمجر ، وعلى الطريق الذي صار بركة من الماء والطين يسمعون صوت حبات المطر وهي تسقط .
مد يد إلى براد الشاي وأفرغ له كوب منه ، وراح يرتشفه في هدوء ، وذهب خياله يحلق خارج الغرفة بجناحين من ريش طاووس ابيض ، يطير ويحلق فوق كل مكان يحلم به ويتمنى أن يراه ، وذهب الخيال بالروح إلى حيث تريد .
وتذكر تلك الضيعة التي كان يعمل بها من قبل في غربته ، وتلك الليالي التي تشبه هذه الليلة ، وهو متدثر بغطائه بعيد عن دفئ الأسرة وأحضان البلاد ، يتمنى رؤيتهم وسماعهم فلا يجد سوى الصدى والسراب .
وأنتبه على أبيه وهو يدقق النظر إليه وسأله .
ـ فيما أنت شارد ؟
ـ لا شيء .
ـ احذر يا ولدى من أن تضيع مشاعرك .
ـ وهل المشاعر تضيع ؟
ـ نعم إن لم تكن المشاعر متبادلة فإنها تضيع .
ـ ألنا حكم عليها ؟
ـ حاول بكل طرقة أن يكون لك حكم عليها .. فتبادل المشاعر شفاء .. وضياعها ألم .
وصمت على إثر صوت اثنين يتبادلان الحديث يأتي من بعيد ، وصوت الأقدام التي تغوص في الطين والماء والوحل تقترب ، وحبات المطر مازالت تقرع على الطريق ، والسماء تزمجر ، ثم راح الصوت يبتعد مرة أخرى ، وظل المطر يهطل والسماء على حالها ، ولم يستطع التحكم بخياله وروحه ، تركاه تحت غطائه ينام بدونهما ..
في الصباح أصر على الذهاب للعمل كعادته في هذه الأيام الممطرة على غير عادة الكثير .
تدثر بملابسه الثقيلة وسار يتحسس الأماكن البعيدة عن حفر الماء والطين والوحل ، وقبل أن يقترب من الطريق ، رأى فتاة تأتى من بعيد ، تبتسم وتنظر إلى الأرض ، وتقابل الاثنان عند حفرة ماء ، فارتكن هو إلى جدار بيت ليفسح لها أن تسير ، فمدت يدها إليه وهى تقول .
ـ خذ بيدي .
تعجب ووقف حائرا ويدها ما تزال ممدودة .
وعادة الفتاة تقول له .
ـ ألا تعرفني .. ألم يزورك خيالي أمس .
وهو في حيرته تلك ، كانت خلفه سيدة قريبة منه همست له في إذنه باسم الفتاه ، فأبتسم ابتسامة عريضة كلها رضا أنشرح لها صدره ، ومد يده إليها وجذبها برفق حتى تخطت حفرة الماء والطين .
وقبل أن تولى قالت وهى الأخرى تبتسم نفس ابتسامته .
ـ الحمد لله أنك أنقذتني من الوحل والطين .. وأشكر هذه السيدة .
وأشارت للتي كانت خلفه وهمست له باسمها .
وسارت هي بحذر وظل كما هو يتأملها وهى تسير ، والابتسامة لم تفارقه بعد .
ثم استدارت هي ولوحت له بيدها قائلة .
ـ إلى لقاء قريب إنشاء الله ..
وتوجهت للسيدة التي عرفته بها وقالت .
ـ قولي له أن يمضى حتى لا أعود أنا الأخرى .
فقالت السيدة وهى تضع يدها على كتفه.
ـ لا . على إه .. توكل على الله والبيت مفتوح ..أدخله من الأبواب .