ساعات الوداع
قبل لحظة الوداع وفد للبيت المودعون من الأهل والجيران ، ودعهم فردا فردا بالسلام والأحضان والقبلات لم يبقَ فى النهاية سوى أبيه ، وهو يقترب منه ليودعه أحس بيد قوية كأنها من حديد تقبض على قلبه ، فلم يستطع تقبيله بل وضع ذقنه على كتفه ،إلتصق الوجهان من الجانب الأيسر ، فأحس بخشونة شعر وجه أبيه ، كأنها انتزعت منه وزرعت بوجهه الغض النضير ، ربت أبيه على ظهره وتجاذبتهما مشاعر الوداع ، وسرا بينهما حنين من قلب القلب فضمه والده إليه بقوة وهو يقول .
ـ هل سأراك مرة أخرى يا ولدى ؟
صوت خفي بداخله يرتفع إلى عنان السماء ـ لا يسمعه أحد غيره ـ يدعوه أن لا يرحل ، لكنه سمع صوتاً لم يتبين من هو (صاحبه) يقول
ـ كن رجلاً وتماسك .. أنت لست صغيرا .. ونحن سنكون إلى جوار أبيك .
انتزعوه من بين أحضان والده وهو ينظر إليه ، والدموع تترقرق فى مقلتيهما ، أخذه (الأصوب: جذبه، أو شده) أحدهم من ذراعه وذهب به إلى السيارة التى سيستقلها للميناء .
اليد الحديدية ما زالت تقبض على قلبه تعتصره ، تنتزعه من ألأرض التى ربا (الأصوب تربى) فيها ونشأ وهو يئن بين قبضتيها ، مضت به السيارة ولم يبقَ له من الوداع ، سوى خشونة شعر وجه أبيه ، واليد الحديدية القابضة على قلبه ، ودعوات أمه التى تلهث بها منذ الأمس دون توقف ، وقبلاتها التى كانت تنثرها عليه كلما رأته.
ترك القرية فخفت وطأة اليد الحديدية شيئاً يسيرا ، ثم ها هو خارج نطاق المركز فخفت حدتها قليلاً ، وما أن كانت المحافظة خلف ظهره ، حتى انفرجت القبضتان عن بعضهما ولكن مازال القلب بينهما يتأوه ، وهو على طريق السويس لم تعد اليد من حديد ، فلقد تبدلت وأصبحت كيد رجل قوى ، تلاطف قلبه المتألم حيناً وحينا آخر
تجعله يئن، فتزداد دقاته ويبكى فى صمته وكأن دموعه من دماء.
خشونة شعر وجه أبيه ما زالت تحمل نفس الإحساس الذى ترك به والده ، الآن هو على ظهر السفينة وقد ارتفع صوت نفير الباخرة ، معلنة بدء رحلتها.. لتصبح اليد التى تقبض على قلبه كيد طفل ، يهدهده بلطف وحنان ، فانفلت منه خيطا كالحرير طرفه بين ضلوعه ..والطرف الآخر هناك بالقرية يلتف حول كل أفرد الأسرة ، أما اثر شعر الوجه الخشن فما زال كما هو ، وصوت أبيه يتردد فى أذنيه .
ـ هل سأراك مرة أخرى ياولدى ؟
ساعة الغروب من فوق سطح الباخرة ، يلقي بنظرة وداع على البيوت الرابضة هناك بعيدا ، ويحلم ببيتهم القابع بقريتهم بين القرى والمدن ، ويرى أفراد أسرته جميعا يلوحون إ ليه ، وهو يبادلهم بيد وبأخرى راح يتحسس مكان شعر وجه أبيه ، الذى كان يئن أنينا أشد من أنين القلب والدموع تنهمر من مقلتيه