أنا والأيام ـ حكايات ـ
الغائب
كان البيت الكبير يضم بين أركانه خمسة رجال وثلاث سيدات ، وحيث كان أبى مجند بالجيش وسافر إلى اليمن فقد صار عدد الرجال أربعة ، وأنا وأخت لى عمرها سنة واحدة ، أما أنا فكان عمرى ثلاثة سنوات .
لا أعرفه لى أب سوى جدى فكنت أناديه يأبى ، و لا أعرف لى أم غير زوجت جدى .
فأمى التى ولدتنى ليس لها شغل شاغل ، سوى العمل الذى يتطلبه بيت ريفى ، به أربعة رجال ، هى وإبنت ألأخ الكبير لجدى ، فالأخوان شركاء فى هذا البيت والأرض الزراعية ، لكل منهما نصف هذه التركة التى يمتلكانها ، زوجت جدى لا تعمل شىء سوى الأشراف عليهما ، ومراعتى أنا وأختى التى كنت لا أعترف بها كأخت ، كما كنت لا أعترف بامى كأم ليس جحود ولا نكران ، فحياتى ليل نهار مع جدى فى الحقل والبيت فى الصحوة والمنام ، تفتحت عينى عليه ونطق لسانى له ، ولا أستطيع أن أصف كل الدلال والرعاية ألتى نولتهما ، وكل ما أطلبه يأتينى ولو كان لبن العصفور كما يقال ، خاصة بعد أن سرة إشاعة بالبلدة تقول أن أبى مات فى حرب اليمن ، ولقيت الإشاعة أرض خصبة فيها نبتت وترعرعت ، وصدقها الجميع خاصة بعد مرور سنة وعدت أشهر على غيابه بهذه الحرب ، وعودت خالى الذى كان أيضا باليمن ولم يعود معه ولا أتى بخبر عنه .
كثر عدد المهتمين بى بعد عودة خالت أبى الى السكن ببيت
والدتها المجاور للبيت الكبير حيث نلتقى بها من على السطح .
فى يوم وليلة تغيرت أنظار أهل البلدة لنا وخاصة لجدى ، الذى كان يقرأ فى أعينهم كلام ، وازداد قلقه وريبته عندما كان يسمع صوت مصمصة شفاههم خلف ظهر بعد مروره ، وهروب أعينهم منه وابتعادهم عنه ، لم يستطع أن يقاوم كل هذا فسقط صريع المرض والحزن ، لم يعد يخرج من البيت ، ولم يجلس معهم على مائدة الطعام ، ظل هكذا حتى أستطاع أخيه إبراهيم أن يجبره على تناول الزاد ، ويخرجه من عزلته هذه ، حتى ولو يجلس معهم ، وكان يواسيه بأرق الكلمات ، ويعده بالأمل فى عودت الابن ، ويحدثه بأنه سيعود ويقسم له ، ويحفزه أن لا ينقطع عن العالم ويستسلم لوحدته هذه التى لا تاتى بخبر ولا بخير، وينصحه أن لا يكون سبب فى تدمير هذا البيت لمجرد كلام ليس له أساس ، فكان الرجل يتحامل على نفسه ويجلس معهم صباحا عند الفطور ، ويقضى معهم سهرة المساء ، لكنه لم يقوى على الخروج من البيت .
مرت على الرجل عدت أسابيع لم يعرف عددها ، وفى يوم كان الرجل يحتضن الطفل ويتمدد على فراشه ، عندما سمع صوت زغاريد النساء فى البيت ، فخرج من غرفته ثائراً على كل من بالبيت ، يكيل لهم التوبيخ بكل ما علم من كلماته ، ويصفع كل من تقترب منه ، وهبت النساء وألتفت حوله وهم يقولون
ـ محمود رجع يا أبو محمود !
لم يصدق القول وازداد توبيخه لهم وصفعاته وسمع صوت رجل من الخارج يرتفع ويقول .
ـ مبروك يا أبو محمود ابنك عاد بسلام من اليمن !
هبط الرجل درجات السلم حتى وصل إلى الدرجة الأخيرة ،
تلفت فى البيت كله لم يرى أبنه ، فهوى جالس عليها وهو يبكى ويقول بصوت مرتفع .
ـ أ لهذا الحد تستهينون بى .. أنا لم أفقد عقلى بعد .. لماذا تفعلون ذلك .. هل أنا طفل صغير تلهون به ؟ .
لم يسمع إليه أحد وأكثروا من زغاريدهم وفرحتهم .
ووجد بنت أخيه الكبيرة المتزوجة بابن الجيران بالبيت المقابل لهم من الجهة الأخرى من الشارع، تجثوا على ركبتيها بعد أن وضعت حقيبة كبير إلى جواره .
وقالت وهى تهدهده .
ـ يا عمى أقسم لك بالله العظيم محمود رجع .. إنه بالخارج أبناء الشارع كلهم ملتفين حوله .. يباركون له عودته بسلام .. وهذه حقيبة من التى جاء بهم معه .
لم تهدأ ثورة الرجل إلا بعد أن رأى أبنه يدخل عليه تمالك نفسه ، ووقف بصعوبة وأخذه بين زراعية طويلا ، وأفرخ حنين الأيام الماضية والشوق والغربة بين أحضانه .
ثم أمر أن يمدوا الفرش الحصير على جانبى الممر الذى ياتى من أول باب الشارع إلى أخر البيت ، وجلس الأهل والجيران وأبناء البلدة الكل توافد عليهم للمباركة لهم على عودة الغائب بسلام .