جرير بن عبد الله البجلى
يوسف هذه الأمة وخادم خدم الرسول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بينما كان النبى صلى الله عليه وسلم يخطب فى يوم من شهر رمضان من السنة العاشرة للهجرة إذ به يعلن أثناء الخطبة قدوم رجل مهيب له سمات الملوك فيقول : ( يدخل عليكم من هذا الباب رجل على وجهه مسحة من الملوك ) . عندئذ شخص الصاحبة نحو الباب الذى أومأ إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ليروا من القادم ، وما هى إلا دقائق حتى دخل جرير بن عبد الله البجلى ، وكان كما وصفه الرسول عليه مهابة الملوك ووجهه كأنه شقة قمر .
وإذ رأى جرير أن العيون شاخصة إليه ومصوبة نحوه فقد أدرك أنه جرى حديث عنه ، فسأل الرجل الذى جلس بجواره : هل ذكرنى أحد قبل دخولى ؟ ، فهمس إليه الرجل : نعم ذكرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنطلق تيار من الحبور فى شرايين جرير ، وقال لنفسه : إن النبى الذى اصطفاه الله وأختاره لرسالته ، ويأتيه خبر السماء ، ليس بكثير عليه أن يكشف الله له حجب الزمان والمكان فيرانى وأنا بعيد عنه .
ولما فرغ النبى صلى الله عليه وسلم من خطبته دعا جرير إلى الجلوس بجواره وبسط رداءه وأجلسه عليه ، وألتفت إلى أصحابه وقال لهم : ( إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه ) ، عندئذ عرف الصحابة مكانة جرير ، فانتظروا حتى يتعرفوا على السبب الذى جاء من أجله ، ولم تمضى دقائق حتى بسط جرير يده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبايعه على الإسلام ، وأن يعلمه كيف يكون مسلماً فقال له الرسول : ( يا جرير أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ، وأن تؤمن بالله واليوم الأخر والقدر خيره وشره وتصلى الصلاة المكتوبة وتؤدى الزكاة المفروضة ) .
كانت كلمات الرسول تنطلق شفافة رفافة مضيئة فيهتز لها وجدان جرير ابن عبد الله ، وتتجاوب له مشاعره ، وكانت أشعة الإيمان تنساح على ملامحه فتزداد حسناً وجمالاً وأحس أن الإسلام أضاء عقله وجوارحه ، وكأنما نور بداخله يصوغ أعماقه صياغة جديدة لكن مكث جرير بالمدينة فترة من الزمن تعلم خلالها من الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يراقب الله فى السر والعلن ، وكيف يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وكيف يجاهد فى سبيل الله بماله ونفسه ، وكيف يتحصن من وساوس الشيطان وكيف يعيش فى معية الله ، وكيف يعتبر نفسه ضيفا على الدنيا ، ستنتهى ضيافته فيها ما بين لحظة وأخرى ، وكيف يستثمر كل وقته فى عبادة الله سواء كانت ذكرا وصلاة ، أو كانت عملاً نافعاً .. لقد تعلم جرير من الرسول صلى الله عليه وسلم كل مبادىء الإسلام وأدابه وقيمه ، فالتزمها ولم يحد عنها قيد شعرة ، وكان حبه للرسول حب يفوق الوصف .. فكان يصلى خلفه كل الفرائض ، ويحضر كل مجالسه ، ويستوضح منه كل مسألة تعن له فكان يزداد كل يوم علماً ومعرفة ، وتزداد بصيرته شفافية واستنارة ، وكان لا يتفانى فى خدمة الرسول فحسب ، وإنما يخدم خدم الرسول أيضا ، حتى أن الخدم كانوا يخجلون من تواضع جرير بينما كان جرير يرى فى خدمة خدم الرسول شرفاً له .. وكان جرير يتوق إلى القتال فى سبيل الله ، ولكنه كان لا يستطيع الثبات على الخيل وقد شكا إلى النبى صلى الله عليه وسلم هذا الأمر فدعا له بأن يثبته الله على ظهور الخيل .
بعد أن دعا النبى لجرير بأن يثبته على ظهور الخيل ، ركب جرير جوادا فأحس بأنه ثابت عليه وأن باستطاعته أن يخوض به المعارك ، فطلب إلى النبى صلى الله عليه وسلم أن يكلفه بالأعمال التى يكلف بها الفوارس ، وأن ينيط به أخطر الأمور التى تتيح له فرصة التضحية والفداء .
كان النبى صلى الله عليه وسلم يريد أن يهدم أصنام اليمن أسمه ( ذو الخلصة ) بفتح الخاء واللام ، وكانوا يسمونه فى الجاهلية ( الكعبة اليمنية ) ، وكانت قبيلتا خثعم وبجيلة تعبدان أصنام هذا البيت فقال النبى لجرير : ( يا جرير ألا تكفينى ذا الخلصة ؟ ) فقال جرير : بلى يا رسول الله .
كان هذا أول عمل عسكرى يقوم به جرير ، فقد واتته الفرصة التى كان يطمح إليها ، وهى الجاهد فى سبيل الله .. خرج جرير فى مائة وخمسين من رجال قبيلته ، عاقدين العزم على هدم ذى الخلصة حتى ولو خاضوا معركة ضارية وعندما بلغوا بيتا الأصنام هذا ، وأحاطوا به ، قام خدام هذا البيت والمنتفعون بما يقدم لأصنامه من قرابين بالدفاع عنه ، وحدث اقتتال شديد أبدى فيه جرير ورجاله بسالة نادرة حتى تمكنوا من القضاء على هؤلاء الصنمين ، وهدموا بيت ذى الخلصة وأحرقوا الأصنام ، ثم عادوا إلى المدينة ظافرين منتصرين .
أثنى النبى صلى الله عليه وسلم على ما فعله جرير ورجاله ، وأمر جرير بأن يقوم بأعمال مماثلة فى هدم بيوت الأصنام التى مازالت موجودة فى أماكن متفرقة ، وكما فعل جرير ببيت ذى الخلصة فعل ببيوت الأصنام الأخرى ، حيث هدمها وأحرق أصنامها .
وقد أشترك جرير فى غزوة حنين ، وكان جهورى الصوت ، فأمره الرسول بأن ينادى فى الذين ولوا مدبرين لكى يعودوا إلى القتال من جديد .
وهكذا استمر جرير بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم ، يتعلم على يديه ، ويلبى أوامره ويؤدى واجبه المقدس تحت راية الإسلام ولما انتقل الرسول الى الرفيق الأعلى ، شارك جرير فى جميع المعارك الإسلامية بدءا من معارك الردة حتى القادسية ، وكان له دور فعال فى كل هذه المعارك .
أما من أطلق على جرير ( يوسف هذه الأمة ) لما تمتع به من ملاحة وجمال فهو عمر بن الخطاب رضى الله عنه .. ولكن جمال هذا البطل أتت عليه المعارك التى خاضها ، حتى أنه حين وافته المنية فى سنة إحدى وخمسين هجرية وجدوا جسده مليئا بالجراح .
رضى الله عن جرير بن عبد الله البجلى ، فقد كان قلبه مضيئاً بحب الله ورسوله ، وقد بذل كل ما يملك فى سبيل نصرة الإسلام .