غزوات الرسول من كتاب الرحيق المختوم
للشيخ صفى الرحمن
غزوة بدر الكبرى
أول معركة من معارك ألإسلام الفاصلة
سبب الغزوة :
سبق فى ذكر غزوة العُشَيْرَةِ أن عيرا لقريش أفلتت من النبى صلى الله عليه وسلم فى ذهابها من مكة إلى الشام ، فلما قرب رجوعها من الشام إلى مكة بعث رسول الله طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى الشمال ليقوما باكتشاف خبرها ، فوصلا الى الحَوْراء ومكثا حتى مر بهما أبو سفيان بالعير، فأسرعا إلى المدينة وأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر .
وكانت العير تحمل ثروات طائلة لكبار أهل مكة ورؤسائها : ألف بعير موقرة بأموال لا تقل عن خمسين ألف دينار ذهبى ، ولم يكن معها من الحرس إلا نحو أربعين رجلا .
إنها فرصة ذهبية للمسلمين ليصيبوا أهل مكة بضربة اقتصادية قاصمة . تتألم لها قلوبهم على مر العصور ، لذلك أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسلمين قائلا : ( هذه عير قريش فيها أموالهم فأخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها ) .
ولم يعزم على احد بالخروج ، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة ، لما أنه لم يكن يتوقع عند هذا الانتداب أنه سيصطدم بجيش مكة – بدل العير – هذا الاصطدام العنيف فى بدر ، ولذلك تخلف كثيرا من الصحابة فى المدينة ، وهم يحسون أن مضى رسول الله فى هذا الوجه لن يعدو ما ألفوه فى السرايا والغزوات الماضية ؛ ولذلك لم ينكر على أحد تخلفه فى هذه الغزوة .
مبلغ قوة الجيش السلمى وتوزيع القيادات :
واستعد رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ( 313 أو 314 أو 317 رجلا ) 82 أو 83 أو 86 من المهاجرين و61 من الأوس و 170 من الخزرج ، ولم يحتفلوا لهذا الخروج احتفلا بليغا ، ولا اتخذوا أهبتهم كاملة ، فلم يكن معهم إلا فرس أو فرسان : فرس للزبير بن العوام . وفرس للمقداد بن الأسود الكندى ، وكان معهم سبعون بعيرا يعتقب الرجلان والثلاثة على بعير واحد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ومرثد ابن أبى مرثد الغَنَوى يعتقبون بعيرا واحدا .
وأستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم ، فلما كان بالروحاء رد أبا لُبَابة بن عبد المنذر ، وأستعمله على المدينة .
ودفع لواء القيادة العامة إلى مصعب بن عمير القرشى العبدرى . وكان هذا اللواء أبيض .
وقسم جيشة إلى كتيبتين :
1 - كتيبة المهاجرين : وأعطى رايتها على بن أبى طالب ، ويقال لها العقاب .
2 – وكتيبة الأنصار : وأعطى رايتها سعد بن معاذ ،( وكانت الرايتان سوداوين )
وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام ، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو - وكان هما الفارسين الوحيدين فى الجيش – كما سبق – وجعل على الساقة قيس بن أبى صَعْصَعَة ، وظلت القيادة العامة فى يده صلى الله عليه وسلم كقائد أعلى للجيش .
وسار رسول الله فى هذا الجيش غير المتأهب ، فخرج من نقب المدينة ، ومضى على الطريق الرئيسى المؤدى إلى مكة ، حتى بلغ بئر الروحاء ، فلما ارتحل منها ترك طريق مكة إلى اليسار ، وانحرف ذات اليمين على النازية يريد بدر ، فسلك فى ناحية منها حتى جزع واديا يقال له : رُحْقان بين النازية وبين مضيق الصفراء ، ثم مر على المضيق ثم انصب منه حتى قرب من الصفراء ، ومن هنالك بعث بسبس بن عمرو وعدى بن أبى الزَغْبَاء الجهنى إلى بدر يتجسسان له أخبار العير .
.
النذير فى مكة :
وأما أخبار العير فان أبا سفيان – وهو المسئول عنها – كان على غاية من الحيطة والحذر فقد كان يعلم أن طريق مكة محفوف بالأخطار ، وكان يتحسس الأخبار ويسأل من لقى من الركبان ، ولم يلبث أن نقلت إليه استخباراته بأن محمدا صلى الله عليه وسلم قد استنفر أصحابه ليوقع بالعير ، وحينئذ استأجر أبو سفيان
ضَمْضَم بن عمرو الغفارى الى مكة مستصرخا لقريش بالنفير إلى عيرهم ، ليمنعوه من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وخرج ضَمْضَم سريعا حتى أتى مكة فصرخ ببطن الوادى واقفا على بعيره ، وقد جدع أنفه وحول رحله ، وشق قميصه ، وهو يقول يا معشر قريش ، اللَطَيِمَة ، اللَطَيِمَة ، أموالكم مع أبى سفيان قد عرض لها محمد فى أصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوث .... الغوث .
أهل مكة يتجهزون للغزو :
فتحفز الناس سراعاً وقالوا : أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمى ؟ كلا والله ليعلمن غير ذلك فكانوا بين رجلين : إما خارج وإما باعث مكانه رجلا ، وأوعبوا فى الخروج فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبو لهب ، فانه عوض عنه رجلا كان له عليه دين ، وحشدوا من حولهم من قبائل العرب ، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بنى عدى فلم يخرج منهم أحد .
قوام الجيش المكى :
وكان قوام هذا الجيش نحو ألف وثلاثمائة مقاتل فى بداية سيره ، وكان معه مائة فرس وستمائة درع ، وجمال كثيرة لا يعرف عددها بالضبط ، وكان قائده العام أبا جهل ابن هشام ، وكان القائمون بتموينه تسعة رجال من أشراف قريش ، فكانوا ينحرون يوما تسعة ويوما عشرا من الإبل .
مشكلة قبائل بنى بكر :
ولما اجمع هذا الجيش على المسير ذكرت قريش ما كان بينها وبين بنى بكر من العداوة والحرب ، فخافوا أن تضربهم هذه القبائل من الخلف ، فيكونوا بين نارين ، فكاد ذلك يثنيهم ، ولكن حينئذ تبدى لهم إبليس فى صورة سُرَاقة بن مالك بن جُعْشُم المدلجى – سيد بنى كنانة – فقال لهم : أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشئ تكرهونه .
جيش مكة يتحرك :
وحينئذ خرجوا من ديارهم كما قال الله : * بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله *. واقبلوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – ( بحدهم وحديدهم يحادون الله ويحادون رسوله ) * وغدوا على حَرْد ٍقادرين * وعلى حمية وغضب وحنق على رسول الله وأصحابه لجرأة هؤلاء على قوافلهم .
تحركوا بسرعة فائقة نحو الشمال فى إتجاه بدر ، وسلكوا فى طريقهم وادى عسفان ، ثم قُدَيداً ، ثم الجُحْفَة وهناك تلقوا رسالة جديدة من أبى سفيان يقول لهم فيها : إنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم ورجالكم وأموالكم وقد نجاها الله فأرجعوا .
العير تفلت :
وكان من قصة أبى سفيان أنه كان يسير على الطريق الرئيسى ، ولكنه لم يزل حذرا متيقظا ، وضاعف حركاته الإستكشافية ، ولما اقترب من بدر تقدم عيره حتى لقى مجدى بن عمرو ، وسأله عن جيش المدينة ، فقال : ما رأيت أحدا أنكره إلا أنى قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ، ثم استقيا فى شن لهما ، ثم انطلقا ، فبادر أبو سفيان إلى مناخهما ، فأخذ من أبعار بعيرهما ، ففته فإذا فيه النوى ، فقال : هذه والله علائف يثرب ، فرجع إلى عيره سريعا وضرب وجهها محولا اتجاهها نحو الساحل غربا ، تاركا الطريق الرئيسى الذى يمر ببدر على اليسار ، وبهذا نجا بالقافلة من الوقوع فى قبضة جيش المدينة ، وأرسل رسالته إلى جيش مكة التى تلقاها فى الجحفة .
هم الجيش المكى بالرجوع ووقع الانشقاق فيه :
لما تلقى هذه الرسالة جيش مكة هم بالرجوع ، ولكن قام طاغية قريش أبو جهل فى كبرياء وغطرسة قائلا : والله لا نرجع حتى نرد بدرا ، فنقيم بها ثلاثا ، فننحر الجَزُور ، ونطعم الطعام ، ونسقى الخمر ، وتعزف لنا القيان ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبدا .
ولكن على رغم أبى جهل – أشار الأخْنَس بن شَرِيق بالرجوع فعصوه ، فرجع هو وبنو زُهْرَة – وكان حليف لهم ، ورئيسا عليهم فى هذا النفير فلم يشهد بدراً زُهرى واحد ، وكانوا حوالى ثلاثمائة رجل ، واغتبطت بنو زهرة بَعدُ برأى الأخْنَس بن شَريق ، فلم يزل فيهم مطاعا معظما .
وأرادت بنو هاشم الرجوع فاشتد عليهم أبو جهل ، وقال : لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع .
فسار جيش مكة وقوامه ألف مقاتل بعد رجوع بنى زهرة – وهو يقصد بدرا – فواصل سيره حتى نزل قريبا من بدر . وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى على حدود وادى بدر
.
موقف الجيش الاسلامى فى ضيق وحرج :
أما استخبارات جيش المدينة فقد نقلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو لا يزال فى الطريق بوادى ذَفَِرَان – خبر العير والنفير . وتأكد لديه بعد التدبر فى تلك الأخبار أنه لم يبق مجال لاجتناب اللقاء الدامى ، وأنه لا بد من إقدام يبنى على الشجاعة والبسالة ، والجراءة ، والجسارة ، فمما لا شك فيه أنه لو ترك جيش مكة يجوس خلال تلك المنطقة يكون ذلك تدعيما لمكانة قريش العسكرية ، وامتدادا لسلطانها السياسى ، وإضعافا لكلمة المسلمين وتوهينا لها ، بل ربما تبقى الحركة الإسلامية بعد ذلك جسدا لا روح فيه ، ويجرؤ على الشر كل من فيه حقد أو غيظ على الإسلام فى هذه المنطقة .
ثم هل هناك ضمان للمسلمين بامتناع جيش مكة عن مواصلة سيرة نحو المدينة ، حتى ينقل المعركة إلى أسوارها ، ويغزو المسلمين فى عقر دارهم ؟ كلا ! فلو حدث من جيش المدينة نكول ما ، لكان له أسوأ الأثر على هيبة المسلمين وسمعتهم .
المجلس الأستشارى :
ونظرا إلى هذا التطور الخطير المفاجئ عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا عسكريا استشاريا أعلى ، أشار فيه إلى الوضع الراهن ، وتبادل فيه الرأى مع عامة جيشه وقادته ، وحينئذ تزعزع قلوب فريق من الناس وخافوا اللقاء الدامى ، وأما قادة الجيش فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن ، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، إمضى لما أراك الله ، فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : * فأذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون * ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فو إلذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغامد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له به .
وهؤلاء القادة الثلاثة كانوا من المهاجرين ، وهم أقلية فى الجيش ، فأحب رسول الله أن يعرف رأى قادة الأنصار ، لأنهم كانوا يمثلون أغلبية الجيش ، ولأن ثقل المعركة سيدور على كواهلهم ، مع أن نصوص العقبة لم تكن تلزمهم بالقتال خارج ديارهم ، فقال بعد سماع كلام هؤلاء القادة الثلاثة : ( أشيروا على أيها الناس ). وإنما يريد الأنصار ، وفطن إلى ذلك قائد الأنصار وحامل لوائهم سعد بن معاذ .
فقال : والله . ولكأنك تريدنا يا رسول الله ؟
فقال : ( أجل )
قال : فقد آمنا بك ، فصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فأمضى يا رسول الله لما أردت . فو الذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصبرا فى الحرب ، صدق فى اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله .
وفى راوية أن سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقا عليها ألا تنصرك إلا فى ديارهم ، وإنى أقول عن الأنصار وأجيب عنهم : فاظعن حيث شئت ، وصل حبل من شئت ، وأقطع حبل من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، وأعطنا ما شئت ، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت ، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك ، فهو الله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك . والله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك .
فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد . ونشطه ذلك ثم قال: ( سيروا وأبشروا ، فان الله تعالى قد وعدنى إحدى الطائفتين ، والله لكأنى الآن أنظر الى مصارع القوم .
طائر الليل