تابع المرحلة الثانية
الدعوة جهارا
الجزء الخامس
موقف المشركين من رسول الله :
وأما بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان رجل شهماً وقوراً ذا شخصية فذة ، تتعاظمه نفوس الأعداء والأصدقاء بحيث لا يقابل مثله إلا بالإجلال والتشريف ، ولا يجترئ على اقتراف الدنايا والرذائل ضده إلا أرذل الناس وسفهاؤهم ، ومع ذلك كان فى منعة أبى طالب ، وأبو طالب من رجال مكة المعدودين ، كان عظيما فى أصله ، معظما بين الناس ، فكان من الصعب أن يجسر أحد على إخفار ذمته واستباحة بيضته ، إن هذا الوضع أقلق قريشا وأقامهم وأقعدهم ، ودعاهم إلى تفكير سليم يخرجهم من المأزق دون أن يقعوا فى محذور لا يحمد عقباه ، وقد هداهم ذلك إلى أن يختاروا سبيل المفاوضات مع المسئول الأكبر : أبى طالب ، ولكن مع شئ كبير من الحكمة والجدية ، ومع نوع من أسلوب التحدى والتهديد الخفى حتى يذعن لما يقولون .
وفد قريش إلى أبى طالب :
قال ابن إسحاق : مشى رجال من أشراف قريش إلى أبى طالب ، فقالوا : يا أبا طالب ، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا ، وإما أن تخلى بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فنكفيكه ، فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقاَ وردهم رداً جميلاً ، فانصرفوا عنه ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه ، يظهر دين الله ويدعوا إليه ، ولكن لم تصبر قريش طويلاً حين رأته ماضياًَ فى عمله ودعوته إلى الله ، بل أكثرت ذكره وتذامرت فيه ، حتى قررت مراجعة أبى طالب بأسلوب أغلظ وأقسى من السابق .
قريش يهددون أبا طالب :
وجاءت سادات قريش إلى أبى طالب فقالوا له : يا أبا طالب ، إن لك سنا وشرفاً ومنزلة فينا ، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آباءنا ، وتسفيه أحلامنا ، وعيب آلهتنا ، حتى تكفه عنا ، أو ننازله وإياك فى ذلك ، حتى يهلك أحد الفريقين .
عظم على أبى طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد ، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : يا أبن أخى ، إن قومك قد جاءونى فقالوا لى كذا وكذا ، فأبق على وعلى نفسك ، ولا تحملنى من الأمر ما لا أطيق ، فظن رسول الله أن عمه خاذله ، وأنه ضعُف عن نصرته فقال : ( يا عم ، والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر ـ حتى يظهره الله أو أهلك دونه ـ ما تركته ) ثم استعبر وبكى ، وقام ، فلما ولى ناداه أبو طالب ، فلما أقبل قال له : اذهب يا بن أخى ، فقل ما أحببت ، فو الله لا أسلمك لشئ أبدا وأنشد :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسد فى التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
وأبشر وقر بذاك منك عيونا
وذلك فى أبيات .
قريش بين يدى أبى طالب مرة أخرى :
ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماض فى عمله عرفت أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله ، وأنه مجمع لفراقهم وعداوتهم فى ذلك ، فذهبوا إليه بعمارة ابن الوليد ابن المغيرة وقالوا له : يا أبا طالب إن هذا الفتى أنهد فتى فى قريش وأجمله ، فخذه فلك عقله ونصره ، وأتخذه ولداً فهو لك ، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذى خالف دينك ودين آبائك ، وفرق جماعة قومك ، وسفه أحلامهم ، فنقتله ، فإنما هو رجل برجل ، فقال : والله لبئس ما تسومننى ، أتعطونى ابنكم أغذوه لكم ، وأعطيكم ابنى تقتلونه ؟ هذا والله ما لا يكون أبداً ، فقال مطعم بن عدى بن نوفل ابن عبد مناف : والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك ، وجهدوا على التخلص مما تكره ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً ، فقال : والله ما أنصفتمونى ، ولكنك قد أجمعت خذلانى ومظاهرة القوم على ، فأصنع ما بدا لك .
ولما فشلت قريش فى هذه المفاوضات ، ولم توفق فى إقناع أبى طالب بمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفه عن الدعوة إلى الله ، قررت أن يختار سبيلا قد حاولت تجنبه والابتعاد منه مخافة مغبته وما يؤول إليه ، وهو سبيل الاعتداء على ذات الرسول صلى الله عليه وسلم .