تابع المرحلة الثانية
الدعوة جهارا
الجزء الثالث
أساليب شتى لمجابهة الدعوة :
ولما فرغت قريش من الحج فكرت فى أساليب تقضى بها على هذه الدعوة فى مهدها وتشخيص هذه الاساليب فيما يلى :
1- السخرية والتحقير ، والآستهزاء والتكذيب
والتضحيك :
قصدوا بها تخذيل المسلمين ، وتوهين قواهم المعنوية ، فرموا النبى صلى الله عليه وسلم بتهم هازلة ، وشتائم سفيهة ، فكانوا ينادونه بالمجنون ، ويصمونه بالسحر والكذب ، وقد أكثروا من السخرية والاستهزاء وزادوا من الطعن والتضحيك شيئا فى شيئا حتى أثر ذلك فى نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أخبر الله سبحانه من قبل أنه يكفيه هؤلاء المستهزئين ، وأخبره أن فعلهم هذا سوف ينقلب وبالا عليهم .
2 – إثارة الشبهات وتكثيف الدعايات الكاذبة :
وقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه بحيث لا يبقى لعامة الناس مجال للتدبر فى دعوته والتفكير فيها ، فكانوا يقولون عن القرأن :} أضغاث أحلام { .. يراها محمد بالليل ويتلوها بالنهار ويقولون ...} بل افتراه { من عند نفسه ويقولون } إنما يعلمه بشر { وقالوا : } إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم أخرون { ... أى اشترك هو وزملاؤه فى اختلاقه .
وأحيانا قالوا : إن له جناً أو شيطاناً يتنزل عليه كما ينزل الجن والشياطين على الكهان .
وأحياناً قالوا : عن النبى صلى الله عليه وسلم إنه مصاب بنوع من الجنون ، فهو يتخيل المعانى ثم يصغها فى كلمات بديعة رائعة كما يصوغ الشعراء ، فهو شاعر وكلامه شعر .. قال تعالى ردا عليهم } والشعراء يتبعهم الغاوون * ألو ترى أنهم فى كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون { سورة الشعراء ... فهذه ثلاث خصائص يتصف بها الشعراء ليست واحدة منها فى النبى صلى الله عليه وسلم ، فالذين اتبعوه هداة مهتدون ، متقون صالحون فى دينهم وخلقهم وأعمالهم وتصرفاتهم ، وليست عليهم مسحة من الغواية فى أى شأن من شئونهم ، ثم النبى لا يهيم فى كل واد كما يهيم الشعراء ، بل هو يدعو إلى رب واحد ، ودين واحد ، وصراط واحد ، وهو لا يقول إلا ما يفعل ، ولا يفعل إلا ما يقول ، فأين هو من الشعراء؟ وأين الشعر والشعراء منه .
هكذا كان يرد عليهم بجواب مقنع حول كل شبهة كانوا يثيرونها ضد النبى صلى الله عليه وسلم والقرآن والإسلام .
ومعظم شبهتهم كانت تدور حول التوحيد ، ثم رسالة محمد ثم بعث الأموات ونشرهم وحشرهم يوم القيامة ، وقد رد القرآن على كل شبهة من شبهاتهم حول التوحيد ، بل زاد عليها زيادات أوضح بها هذه القضية من كل ناحية ، وبين عجز آلهتهم عجزاً لا مزيد عليه ، ولعل هذا كان مثار غضبهم واستنكارهم الذى أدى إلى ما أدى إليه .
أما شبهاتهم فى رسالة النبى صلى الله عليه وسلم فإنهم مع اعترافهم بصدق النبى وأمانته وغاية صلاحه وتقواه كانوا يعتقدون أن منصب النبوة والرسالة أجل وأعظم من أن يعطى لبشر ، فالبشر لا يكون رسول ، والرسول لا يكون بشر حسب عقيدتهم ، فلما أعلن رسول الله عن نبوته ، ودعا إلى الإيمان به تحيروا وقالوا : } ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق { سورة الفرقان ، وقالوا أن محمد صلى الله عليه وسلم بشر ،... و } ما أنزل الله على بشر من شىء { سورة الأنعام ....، فقال تعالى ردا عليهم : } قل من أنزل الكتاب الذى جاء به موسى نورا وهدى للناس { .... ، وكانوا يعرفون ويعترفون بأن موسى بشر ، ورد عليهم بأن كل قوم قالوا لرسلهم إنكارا على رسالتهم : .... } إن أنتم إلا بشر مثلنا { سورة إبراهيم ،..... ف } قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده { سورة إبراهيم ،.... فالأنبياء والرسل لا يكونون إلا بشر ، ولا منافاة بين البشرية والرسالة .
وحيث أنهم كانو يعترفون بأن إبراهيم وإسماعيل وموسى – عليهم السلام – كانوا رسلا وكانوا بشرا ، فإنهم لم يجدوا مجالا للإصرار على شبهتهم هذه ، فقالوا : ألم يجد الله لحمل رسالته إلا هذا اليتيم المسكين ، ما كان الله ليترك كبار أهل مكة والطائف ويتخذ هذا المسكين رسولا... } لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم { الزخرف ،....قال تعالى ردا عليهم : } أهم يقسمون رحمت ربك { الزخرف .... ، يعنى أن الوحى والرسالة رحمة من الله ،.... و } الله أعلم حيث يضع رسالته { الأنعام ...
وانتقلوا بعد ذلك إلى شبهة أخرى ، قالوا : إن رسل ملوك الدنيا يمشون فى موكب من الخدم والحشم ، ويتمتعون بالأبهة والجلال ، ويوفر لهم كل أسباب الحياة ، فما بال محمد يدفع فى الأسواق للقمة عيش وهو يدعى أنه رسول الله ، ورد على شبهتهم هذه بأن محمداً رسول ، يعنى أن مهمته هو إبلاغ رسالة الله إلى كل صغير وكبير ، وضعيف وقوى ، وشريف ووضيع ، وحر وعبد ، فلو لبث فى الأبهة والجلال والخدم والحشم والحرس والمواكبين مثل رسل الملوك
، لم يكن يصل إليه ضعفاء الناس وصغارهم حتى يستفيدوا به ، وهم جمهور البشر ، وإذن فاتت مصلحة الرسالة ، ولم تعد لها فائدة تذكر .
أما إنكارهم البعث بعد الموت فلم يكن عندهم فى ذلك إلا التعجب والاستغراب والاستبعاد العقلى .
وقال قائلهم :
أموت ثم بعث ثم حشر ..... حديث خرافة يا أم عمرو
وقد رد عليهم بتبصيرهم ما يجرى فى الدنيا ، فالظالم يموت دون أن يلقى جزاء ظلمه ، والمظلوم يموت دون أن يأخذ حقه من ظالمه ، والمحسن الصالح يموت قبل أن يلقى جزاء إحسانه وصلاحه ، والفاجر المسىء يموت قبل أن يعاقب على سوء عمله ، فإن لم يكن بعث ولا حياة ولا جزاء بعد الموت لاستوى الفريقان ، بل لكان الظالم والفاجر أسعد من المظلوم والصالح وهذا غير معقول إطلاقا ، ولا يتصور من الله أن يبنى نظام خلقه على مثل هذا الفساد .
وأما الاستبعاد العقلى فقال تعالى رد عليه } أأنتم أشد خلقا أم السماء { وبين ما هو معروف عقلا وعرفا وهو أن الإعادة قال تعالى } أهون عليه { وقال } كما بدأنا أول خلق نعيده { وقال } أفعيينا بالخلق الأول { .
وهكذا رد على كل ما أثاروا من الشبهات رداً مفحما يقنع كل ذى عقل ولب ، ولكنهم كانوا مشاغبين مستكبرين يريدون علوا فى الأرض و، فرض رأيهم على الخلق ، فبقوا فى طغيانهم يعمهون .
3 – الحيلولة بين الناس وبين سماعهم القرآن ، ومعارضته بأساطير الأولين :
كان المشركون بجنب إثارة هذه الشبهات يحولون بين الناس وبين سماعهم القرآن ودعوة الإسلام بكل طريق يمكن ، فكانوا يطردون الناس ويثيرون الشغب والضوضاء ويتغنون ويلعبون ، إذا رأوا النبى صلى الله عليه وسلم يتهيأ للدعوة ، أو إذا رأوه يصلى ويتلوا القرآن ، قال تعالى :} وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه لعلكم تغلبون { حتى إن النبى لم يتمكن من تلاوة القرآن عليهم فى مجامعهم ونواديهم إلا فى أواخر السنة الخامسة من النبوة ، وذلك أيضا عن طريق المفاجأة ، دون أن يشعروا بقصده قبل بداية التلاوة .
وكان النضر بن الحارث ، أحد شياطين قريش قد قدم الحيرة ، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس رستم واسفنديار ، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا للتذكير بالله والتحذير من نقمته خلفه النضر ويقول : أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه ، ثم يحدثهم عن ملوك فارس رستم واسفنديار ، ثم يقول ، بماذا محمد أحسن حديثا منى .
وفى رواية عن ابن عباس أن النضر كان قد اشترى
قينه ، فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته ، فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ، هذا خير مما يدعوك إليه محمد ، وفيه نزل قوله تعالى } ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله {