المرحلة الثانية
الدعوة جهارا
أول أمر بإظهار الدعوة :
لما تكونت جماعة من المؤمنين تقوم على الأخوة والتعاون ، وتتحمل عبء تبليغ الرسالة وتمكينها من مقامها نزل الوحى يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعالنة الدعوة ، ومجابهة الباطل بالحسنى .
وأول ما نزل قوله تعالى * وأنذر عشيرتك الأقربين * }الشعراء{ ، وقد ورد فى سياق ذكرت فيه أولاً قصة موسى عليه السلام ، من بداية نبوته إلى هجرته مع بنى إسرائيل ، وقصة نجاتهم من فرعون وقومه ، وإغراق آل فرعون معه ، وقد اشتملت هذه القصة على جميع المراحل التى مرى بها موسى عليه السلام ، خلال دعوة فرعون وقومه إلى الله .
وكأن هذا التفصيل جئ به مع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجهر الدعوة إلى الله ، ليكون أمامه وأمام أصحابه مثال لما سيلقونه من التكذيب والاضطهاد حينما يجهرون بالدعوة ، وليكونوا على بصيرة من أمرهم منذ البداية .
ومن ناحية أخرى تشتمل هذه الصورة على ذكر مآل المكذبين للرسل ، من قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقوم إبراهيم ، وقوم لوط ، وأصحاب الأيكة – عدا ما ذكر من أمر فرعون وقومه – ليعلم الذين سيقومون بالتكذيب عاقبة أمرهم وما سيلقونه من مؤاخذة الله إن استمروا عليه ، وليعرف المؤمنون أن حسن العاقبة لهم وليس للمكذبين .
الدعوة فى الأقربين :
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته بنى هاشم بعد نزول هذه الآية ، فجاءوا ومعهم نفر من بنى عبد المطلب بن عبد مناف ، فكانوا نحو خمسة وأربعين رجلاً ، فلما أراد أن يتكلم رسول الله بادره أبو لهب وقال : هؤلاء عمومتك وبنو عمومتك فتكلم ، ودع الصباة ، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة ، وأنا أحق من أخذك ، فحسبك بنو أبيك ، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش ، وتمدهم العرب ، فما رأيت أحداً جاء على بنى أبيه بشر مما جئت به ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم فى ذلك المجلس .
ثم دعاهم ثانية وقال : ( الحمد لله أحمده وأستعينه ، وأومن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ) ثم قال : ( إن الرائد لا يكذب أهله ، والله الذى لا إله إلا هو ، إنى رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة ، والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن بما تعملون ، وإنها الجنة أبدا أو النار أبدا )
فقال أبو طالب : ما أحب إلينا معاونتك ، وأقبلنا لنصيحتك ، وأشد تصديقا لحديثك وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون ، وإنما أنا أحدهم ، غير أنى أسرعهم إلى ما تحب ، فأمضى لما أمرت به فوالله ، لا أزال أحوطك وأمنعك ، غير أن نفسى لا تطاوعنى على فراق دين عبد المطلب .
فقال أبو لهب : هذه والله السوأة ، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم ، فقال أبو طالب : لنمنعه ما بقينا .
على جبل الصفا :
وبعد تأكد النبى صلى الله عليه وسلم من تعهد أبى طالب بحمايته وهو يبلغ عن ربه صعد النبى ذات يوم على الصفا ، فعلا أعلاها حجراً ، ثم هتف : ( يا صباحاه )
وكانت كلمة إنذار تخبر عن هجوم جيش أو وقوع أمر عظيم .
ثم جعل ينادى بطون قريش ، ويدعوهم قبائل قبائل : ( يا بنى فهر ، يا بنى عدى يا بنى فلان ، يا بنى فلان ، يا بنى عبد مناف ، يا بنى عبد المطلب ) .
فلما سمعوا قالوا من هذا الذى يهتف ؟ قالوا : محمد . فأسرع الناس إليه ، حتى إن الرجل إذا لم يستطع أن يخرج إلية أرسل رسولاً لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش .
فلما اجتمعوا قال : ( أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادى بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقى )
قالوا : نعم ما جربنا عليك كذباً ، ما جربنا عليك إلا صدقاً .
قال : ( فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد ، إنما مثلى ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربا أهله ) – أى يتطلع وينظر لهم من مكان مرتفع لئلا يدهمهم العدو – ( فخشى أن يسبقوه فجعل ينادى : يا صباحاه )
ثم دعاهم إلى الحق ، وانذرهم من عذاب الله فخص وعم فقال :
( يا معشر قريش ، اشتروا أنفسكم من الله ، أنقذوا أنفسكم من النار ، فإنى لا أملك لكم من الله ضراً ولا نفعاً ، ولا أغنى عنكم من الله شيئاً .
يا بنى كعب بن لؤى ، أنقذوا أنفسكم من النار ، فإنى لا أملك ضراً ولا نفعاً .
يا بنى مرة بن كعب ، أنقذوا أنفسكم من النار .
يا معشر بنى قصى ، أنقذوا أنفسكم من النار ، فإنى لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً .
يا معشر بنى عبد مناف ، أنقذوا أنفسكم من النار ، فإنى لا أملك لكم من الله ضراً ولا نفعاً ، ولا أغنى عنكم من الله شيئاً
يا بنى عبد شمس ، أنقذوا أنفسكم من النار .
يا بنى هاشم ، أنقذوا أنفسكم من النار .
يا معشر بنى عبد المطلب ، أنقذوا أنفسكم من النار ، فإنى لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً ، ولا أغنى عنكم من الله شيئاً ، سلونى من مالى ما شئتم ، لا املك لكم من الله شيئاً .
يا عباس بن عبد المطلب ، لا أغنى عنك من الله شيئاً .
يا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله ، لا أغنى عنك من الله شيئاً .
يا فاطمة بنت محمد رسول الله ، سلينى ما شيئت من مالى ، أنقذى نفسك من النار فإنى لا أملك لك ضراً ولا نفعاً ، ولا أغنى عنك من الله شيئاً .
غير أن لكم رحماً سأبُلُّها بِبلاَلها ) أى سأصلها حسب حقها .ولما تم هذا الإنذار انفض الناس وتفرقوا ، ولا يذكر عنهم أى ردة فعل ، سوى أن أبا لهب واجه النبى صلى الله عليه وسلم بالسوء ، وقال : تبا لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت : * تبت يدا أبى لهب وتب *
كانت هذه الصيحة العالية هى غاية البلاغ ، فقد أوضح الرسول لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلات بينه وبينهم ، وأن عصبة القرابة التى يقوم عليها العرب ذابت فى حرارة هذا الإنذار الآتى من عند الله .
ولم يزل هذا الصوت يرتج دويه فى أرجاء مكة حتى نزل قوله تعالى : * فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين * } الحجر { فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بالدعوة إلى الإسلام فى مجامع المشركين ونواديهم يتلوا عليهم كتاب الله ، ويقول لهم ما قالته الرسول لأقوامهم : * يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره * } الأعراف { وبدء يعبد الله تعالى أمام أعينهم ، فكان يصلى بفناء الكعبة نهاراً جهاراً وعلى رءوس الأشهاد .
وقد نالت الدعوة مزيدا من القبول ، ودخل الناس فى دين الله واحداً بعد واحد ، وحصل بينهم وبين من لم يسلم من أهل بيتهم تباغض وتباعد وعناد واشمأزت قريش من كل ذلك ، وساءهم ما كانوا يبصرون