سيرة الرسول العهد المكى
للشيخ صفى الرحمن المباركفورى
فى ظلال النبوة والرسالة
فى غار حراء :
لما تقارب سنه صلى الله عليه وسلم الأربعين ، وكانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه ، حبب إليه الخلاء ، فكان يأخذ السَّوِيق والماء ، ويذهب إلى غار حراء فى جبل النور على مبعدة نحو ميل من مكة – وهو غار لطيف طوله أربعة أذرع ، وعرضه ذراع وثلاثة أرباع ذراع من ذراع الحديد – فيقيم فيه شهر رمضان ، ويقضى وقته فى العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون وفيما وراءها من قدرة مبدعة ، وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة وتصوراتها الواهية ، ولكن ليس بين يديه طريق واضح ، ولا منهج محدد ، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه .
وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفاً من تدبير الله له ، وليكون انقطاعه عن شواغل الأرض وضجة الحياة وهموم الناس الصغيرة التى تشغل الحياة نقطة تحول لاستعداده لما ينتظره من الأمر العظيم ، فيستعد لحمل الأمانة الكبرى وتغيير وجه الأرض ، وتعديل خط التاريخ .. دبر الله له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات ، ينطلق فى هذه العزلة شهراً من الزمان ، مع روح الوجود الطليقة ، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله .
جبريل ينزل بالوحى :
ولما تكامل له أربعون سنة – وهى رأس الكمال ، وقيل : لها تبعث الرسل – بدأت طلائع النبوة تلوح وتلمع ، فمن ذلك أن حجراً بمكة كان يسلم عليه ، ومنها أنه كان يرى الرؤيا الصادقة ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، حتى مضت على ذلك ستة أشهر – ومدة النبوة ثلاث وعشرون سنة ، فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعون جزءاً من النبوة – فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلة صلى الله عليه وسلم بحراء شاء الله أن يفيض من رحمته على أهل الأرض ، فأكرمه بالنبوة ، وأنزل إليه جبريل بآيات من القرآن .
وبعد النظر والتأمل فى القرآن والدلائل يمكن لنا أن نحدد ذلك اليوم بأنه كان يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلاً ، وقد وافق 10 أغسطس سنة 610م ، وكان عمره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك بالضبط أربعون سنة قمرية ، وستة أشهر ، و12 يوماً ، وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر وعشرين يوماً .
ولنستمع إلى عائشة الصديقة رضى الله عنها تروى لنا قصة هذه الواقعية التى كانت نقطة بداية النبوة ، وأخذت تفتح دياجير ظلمات الكفر والضلال حتى غيرت مجرى الحياة ، وعدلت خط التاريخ ، قالت عائشة .
أول ما بدئ به رسول الله من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلوا بغار حراء ، فيتحنث فيه – وهو التعبد – الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء ، فجاءه الملك فقال : اقرأ : قال : ( ما أنا بقارئ ) ، قال ( فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى ، فقال : اقرأ قلت ما أنا بقارئ ، قال : فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذنى فغطنى الثالثة ، ثم أرسلنى فقال :* اقرأ باسم ربك الذى خلق 0 خلق الإنسان من علق 0 اقرأ وربك الأكرم * )
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده ، فدخل لخديجة بنت خويلد فقال : ( زملونى زملونى ) فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة : ( ما لى ؟ ) فأخبرها الخبر ( لقد خشيت على نفسى ) ، فقالت خديجة : كلا ، والله ما يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقرى الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، فأنطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة – وكان امرأ تنصر فى الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبرانى ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخاً كبيراً قد عمى – فقالت له خديجة : يا بن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال له ورقة : يا بن أخى ، ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذى نزله الله على موسى يا ليتنى فيها جذعا ، ليتنى أكون حياً إذ يخرجك قومك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أو مخرجى هم ؟ ) قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى ، وأن يدركنى يومك أنصرك نصراً مؤزراً ، ثم لم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحى .
فترة الوحى :
أما مدة الوحى فاختلفوا فيها على عدة أقوال . والصحيح أنها أياما ، وقد روى ابن سعد عن ابن عباس ما يفيد ذلك ، وأما ما اشتهر من أنها دامت ثلاث سنوات أو سنتين ونصفاً فليس بصحيح .
وقد ظهر لى شئ غريب بعد إدارة النظر فى الروايات وفى اقوال أهل العلم ، ولم أر من تعرض له منهم ، وهو أن هذه الأقوال والروايات تفيد أن رسول الله كان يجاور بحراء شهراً واحداً وهو شهر رمضان من كل سنة ، وذلك من ثلاث سنوات قبل النبوة ، وأن سنة النبوة كانت هى آخر تلك السنوات الثلاث ، وأنه كان يتم جواره بتمام شهر رمضان فكان ينزل بعده من حراء صباحاً – أى لأول يوم من شهر شوال – ويعود إلى البيت .
وقد ورد التنصيص فى رواية الصحيحين على أن الوحى الذى نزل عليه صلى الله عليه وسلم بعد الفترة إنما نزل وهو راجع إلى بيته بعد إتمام جواره بتمام الشهر .
أقول :
فهذا يفيد ان الوحى الذى نزل عليه صلى الله عليه وسلم بعد الفترة إنما نزل فى أول يوم من شهر شوال بعد نهاية شهر رمضان الذى تشرف فيه بالنبوة والوحى ؛ لأنه كان آخر مجاورة له بحراء ، وإذا ثبت أن أول نزول الوحى كان فى ليلة الاثنين الحادية عشرة من شهر رمضان فإن هذا يعنى أن فترة الوحى كانت لعشرة أيام فقط ، وأن الوحى نزل بعدها صبيحة يوم الخميس لأول شوال من السنة الأولى من النبوة ، ولعل هذا هو السر فى تخصيص العشر الأواخر من رمضان بالمجاورة والاعتكاف ، وفى تخصيص أول شهر شوال بالعيد السعيد والله أعلم .
وقد بقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أيام الفترة كئيبا محزوناً تعتريه الحيرة والدهشة ، فقد روى البخارى فى كتاب التعبير ما نصه :
وفتر الوحى فترة حزن النبى فيما بلغنا حزناً عدا منه مراراً كى يتردى من رءوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكى يلقى نفسه منه تبدى له جبريل فقال : يا محمد ، أنك رسول الله حقا ، فسكن لذلك جأشه ، وتقر نفسه ، فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك .
جبريل ينزل بالوحى مرة ثانية :
قال ابن حجر : وكان ذلك ( أى انقطاع الوحى أياماً ) ؛ ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الردع ، ليحصل له التشوف إلى العودة ، فلما حصل له ذلك وأخذ يرتقب مجئ الوحى أكرمه الله بالوحى مرة ثانية قال صلى الله عليه وسلم :
( جاورت بحراء شهراً فلما قضيت جوارى هبطت { فلما استبطنت الوادى } فنوديت فنظرت عن يمينى فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالى فلم أر شيئا ، ونظرت أمامى فلم أر شيئا ، ونظرت خلفى فلم أر شيئا ، فرفعت رأسى فرأيت شيئا { فإذا الملك الذى جائنى بحراء جالس على كرسى بين السماء والأرض فجثثت منه رعبا حتى هويت إلى الأرض } فأتيت خديجة فقلت : { زملونى زملونى } ، دثرونى وصبوا على ماء بارداً ) قال : ( فدثرونى وصبوا على ماء بارداً ، فنزلت : * يا أيها المدثر 0 قم فأنذر 0 وربك فكبر 0 وثيابك فطهر 0 والرجز فأهجر * وذلك قبل أن تفرض الصلاة ن ثم حمى الوحى بعد وتتابع .
وهذه الآيات هى مبدأ رسالة صلى الله عليه وسلم ، وهى متأخرة عن النبوة بمقدار فترة الوحى . وتشتمل على نوعين من التكليف مع بيان ما يترتب عليه :
النوع الأول :
تكليفه صلى الله عليه وسلم بالبلاغ والتحذير ، وذلك فى قوله : * قم فأنذر * فإن معناها : حذر الناس من عذاب الله إن لم يرجعوا عما هم فيه من الغى والضلال وعبادة غير الله المتعال ، والإشراك به فى الذات والصفات والحقوق والأفعال .
النوع الثانى :
تكليفه صلى الله عليه وسلم بتطبيق أوامر الله سبحانه وتعالى على ذاته ، والالتزام بها فى نفسه ؛ ليحرز بذلك مرضاة الله ، ويصير أسوة حسنة لمن آمن بالله وذلك فى بقية الآيات ، فقوله * وربك فكبر * معناه : خصه بالتعظيم ، ولا يشرك به فى ذلك أحداً وقوله * وثيابك فطهر * المقصود الظاهر منه : تطهير الثياب والجسد ، إذ ليس لمن يكبر الله ويقف بين يديه أن يكون نجسا مستقذراً ، وإذا كان هذا التطهير مطلوبا فإن التطهير من أدران الشرك وأرجاس الأعمال والأخلاق أولى بالطلب ، وقوله : * والرجز فأهجر * معناه : ابتعد عن أسباب سخط الله وعذابه ، وذلك بالتزام طاعته وترك معصيته ، وقوله : * ولا تمنن تستكثر * أى : لا تحسن إحسانا تريد أجره من الناس أو تريد له جزاء أفضل فى هذه الدنيا .
أما الآية الأخيرة ففيها تنبيه على ما يلحقه من أذى قومه حين يفارقهم فى الدين ويقوم بدعوتهم إلى الله وحده وبتحذيرهم من عذابه وبطشه ، فقال : * ولربك فأصبر * ، ثم إن مطلع الآيات تضمنت النداء العلوى – فى صوت الكبير المتعال – بانتداب النبى لهذا الأمر الجلل ، وانتزاعه من النوم والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة :* يا أيها المدثر قم فأنذر * ، كأنه قيل : إن الذى يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً ، أما أنت الذى تحمل هذا العبء الكبير فما لك والنوم ؟ وما لك والراحة ؟ وما لك والفراش الدافئ ؟ والعيش الهادئ ؟ والمتاع المريح ! قم للأمر العظيم الذى ينتظرك والعبء الثقيل المهيأ لك ، قم للجهد والنصب ، والكد والتعب ، قم فقد مضى وقت النوم والراحة ، وما عاد منذ اليوم إلا السهر المتواصل ، والجهاد الطويل الشاق ، قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد .
إنها كلمة عظيمة رهيبة تنزعه صلى الله عليه وسلم من دفء الفراش فى البيت الهادئ والحضن الدافئ لتدفع به فى الخضم ، بين الزعازع والأنواء ، وبين الشد والجذب فى ضمائر الناس وفى واقع الحياة سواء .
وقام رسول الله ، فظل قائماً بعدها أكثر من عشرين عاماً ؛ لم يسترح ولم يسكن ولم يعيش لنفسه ولا لأهله ، قام وظل قائماً على دعوة الله ، يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به ، عبء الأمانة الكبرى فى هذه الأرض ، عبء البشرية كلها ، عبء العقيدة عشرين عاماً ؛ لا يلهيه شأن عن شأن فى خلال هذا الأمد منذ أن سمع النداء العلوى الجليل ، وتلقى منه التكليف الرهيب ... جزاء الله عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء .
وليست الأوراق الآتية إلا صورة مصغرة بسيطة من هذا الجهاد الطويل الشاق الذى قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال هذا الأمد .
أقسام الوحى :
وقبل الدخول فى موضوع هذا الجهاد أرى من الأحسن أن أستطرد إلى أقسام الوحى ومراتبه ، قال ابن القيم ، وهو يذكر تلك المراتب :
إحداها : الرؤية الصادقة ، وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم .
الثانية : ما كان يلقيه الملك فى روعه وقلبه من غير أن يراه ، كما قال النبى : ( إن روح القدس نفث فى روعى أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا فى الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله ، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته )
الثالثة : إنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملك رجلاً فيخاطبه حتى يعى عنه ما يقول له ، وفى هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً .
الرابعة : أنه كان يأتيه فى مثل صلصلة الجرس ، وكان أشده عليه ، فيلتبس به الملك ، حتى أن جبينه ليتفصد عرقاً فى اليوم الشديد البرد ، وحتى أن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها ، ولقد جاء الوحى مرة كذلك وفخذه على زيد بن ثابت ، فثقلت عليه حتى كادت ترضها .
الخامسة : إنه يرى الملك فى صورته التى خلق عليها ، فيوحى إليه ما شاء الله أن يوحيه ، وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك فى سورة النجم .
السادسة : ما أوحاه الله إليه ، وهو فوق السموات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها .
السابعة : كلام الله له منه إليه بلا واسطة كما كلم الله موسى بن عمران ، وهذه المرتبة هى ثابتة لموسى قطعاً بنص القرآن ، وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم هو حديث الإسراء .
وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة : وهى تكليم الله له كفاحاً من غير حجاب ، وهى مسألة خلاف بين السلف والخلف ، انتهى مع تخليص يسير فى بيان المرتبة الأولى والثامنة .
طائر الليل