بين المحبة والعشق
بقلم : طاهر أبو فاشا
ألا ترى أنك تستسيغ أن تقول أحب التفاح- مثلا-
ولكنك لا تستسيغ أن تقول أعشق التفاح
- . - . - . - . - . - . - . - . - . -
إن كلمة الحب تدل من الناحية اللغوية على . الود . والميل والرغبة ، والحب بحسب متعلقاته أنواع ودرجات ، فمنه الذات الذى ينتهى إلى ما نسميه ( الأنانية ) ومنه حب الغير الذى نسميه ( الإيثار ) ، ومنه حب الحياة ، ومنه حب الكون كله وهو صورة من صور الحب الإلهى لأن صدق الحب أن تحب ما يصدر عن المحبوب .
* * *
أما العشق فهو من الناحية اللغوية إفراط فى حب من
أحب ، وهو أيضا له متعلقات ومراتب تبدءا من الصورة المادية الحسية ، ثم تنتقل فى مدارج الصعود حتى تصل إلى الجمال المطلق .
والإفراط فى الحب الذى نسميه عشقا يتطلب نوعا من التسامى فى المعشوق ألا ترى أنك تستسيغ أن تقول أحب التفاح ، ولكنك لا تستسيغ أن تقول أعشق التفاح .
حقيقته ومراتب
وعن الحب والعشق يحدثنا داود الانطاكى فى كتابه تزين الأشواق بتفصيل أشواق العشاق ..
ويقول الأنطاكى أن الحب يدل على أريحية فى الطبع ، ولطافة فى الشمائل لأن غاية العشاق أن يحصل على رضا معشوقة ، وهو لا يحصل على رضا المعشوق وإعجابه إلا إذا حصل على صفات الكمال التى تملأ نفس المحبوب وتقربه منه .
ويروى أن ابن أبى كثير قال لأبن الورقاء : هل عشقت حتى تكاتب وتراسل ، قال : لا . فقال له إذن لن تفلح والله أبدا وأنشد : إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى
فأنـت وعــير الفلاة ســواء
ويروى الشيخ داود أن العشاق يعيشون فى مرتبة إنسانية أسمى وأغلى من حياة غيرهم وينشدون :
وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى
ولا خير فيمن لا يحب ويعشق
وهو ينظر إلى الحب باعتباره غاية الحياة ، فليس وراء الاتصال بالمحبوب غاية ، وهو لا يعدل بالحب ملك الدنيا وإعلان الحياة .
وما سرنى أنى خلىً من الهــوى
ولو أن لى ما بين شرق إلى غرب
فإذا كان هذا هو شأن الحب فكيف بالحب الكبير ، العشق الإلهى ، وكيف يصل إليه السالكون ، وهل هو مقام ، أو هو حاله ؟
* * *
هنا نراهم يقسمون النفس باعتبار أصولها ثلاثة أقسام
أولها : النفس المعدنية الجامدة التى لا تعقل ما يراد منها ، وما يصدر عنها إنما يصدر بالخاصية أو بأمر أودعه الله فيها
، لمصالح يعلمها .
وثانيا : النفس النباتية وهى أرفع من الأولى ، بأعتبار الذبول والتحلل ، أى أنها تعيش وتموت ، ففيها نوع حياه .
وثالثها : النفس الحيوانية وتفضل النفس السابقة بالحركة والإرادية ومنها النفس الإنسانية وهى أفضل النفوس
لأنها- يقول الأنطاكى- زبدة الكائنات وما دامت تملك
الحركة الأرادية فهى مقتدرة على أن تتبع شهوات
الجسم وعوارض التكليف فتكون حيوانية .. أو تعمل
على خلاص النفس من ظلمة ماديتها وإطلاقها من
قفص الجسم فتلحق بعالمها الأصلى .. وهذه هى
النفس الملكية المتخلصة من عوارض الكثافة ،
المنتظمة فى محض اللطافة .
فالأنسان منقسم كأصله .. متميز بفعله .
الروح الأكبر
وبهذا يحدد الأنطاكى مفهوم العشق الإلهى ، فهو نزوع
الروح إلى الروح الأكبر ، الذى منه المبتدى وإليه المنتهى .
ويوضح هذه الفكرة الدكتور عبد الوهاب عزام فى كتابه الممتع ( فريد الدين العطار ) المؤرخ الكبير الذى يقرر فى نصوص متعددة نقلها الدكتور عزام ، عن الفارسية- أن روح الإنسان من روح الله وأنهم يحتجون لذلك بقوله تعالى * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * ولهذا فإن صلة الإنسان بربه أقوى من صلته بالعالم .. هكذا يقول .. ويشير الدكتور عزام هنا إلى قصيدة الرئيس ( ابن سينا ) المشهورة .
هبطت إليك من المحل الإرفع
ورقــاء ذات تعـزز وتمنــع
محجوبة عن كـل مقلة عـارف
وهى التى سفــرت ولــم تتبرقـع
وصلـت على كـره إليك وربمـا
كرهـت فـراقك وهى ذات تفجع
فالورقاء هنا رمز للنفس الإنسانية التى هبطت من عالم الروح الأعلى إلى عالم الأرض .
ولهذا يحن الواصلون من السالكين إلى الاتصال بالأصل والرجوع إليه ، ولا يزالون يتدرجون فى معارج الوصول حتى يصلوا إلى مقام العشق الإلهى .
الطريق
ولا يصل السالكون إلى هذا المقام إلا بعد مكابدة رياضية ، ومجاهدة نفسية يصفون فيها أنفسهم ويسمونها ( طريقا )
والطريق مراتب أو مراحل يسمونها مقامات ، ولكل مقام من هذه المقامات ظواهر يسمونها ( أحوالا ) .
وفرقوا بين المقام والحال .
فالمقام هو الذى يصل إليه السالك بالمجاهدة والمكابدة والعمل والعبادة والزهاده .
وهكذا يأخذون أنفسهم بضروب من المعاناة فى سفرهم إلى الله .
وزادى قليـل ما أراه مبـلغى
أللزاد أبكى . أم لطول مسافتى
فالمقام مجاهدة ورياضة وسعى وعمل واكتساب . أما الحال ، فهو عندهم معنى يريدُ على من غير تعمد أو اجتلاب مثل الحزن والشوق والطرب والأنس .
ولهذا قالوا : الأحوال مواهب والمقامات مكاسب .
نقل بواسطة
الشيم الكرام
.