فساد المجتمع
الجزء الثالث
ــ 4 ــ
في اليوم التالي التقي داود وسعيد بالمكتب ، وأبلغه سعيد أن ألمناقصة التي حدثه عنها قد قفل باب التقدم لها ، وطلب منه أن لا يُأسر عليه ذلك ، وأكد أنه سيعوضه عن ما سيرضيه ، وأنه سيوصى كل من يعرفه ، أن يتحرى له عن كل مناقصة ، ويخبره بها أول بأول ، قبل أن يصل أحد إلى معرفة ذلك قبلهما ، وأقسم أن لا يتكرر هذا مرة أخرى .
سكن سعيد بعض من الوقت .. ثم أخذ يستفسر منه.
ــ لماذا لم تفكر في تغير النشاط ؟ .. فكل ما تحتاج إليه مكان أوسع من هذا وتغيير التراخيص إلى شركة .. وهذا لن يكلفك كثير .. وسيكون أفضل .
أطرق دود قليلا ثم قال
ــ إني أفكر في الأمر وهذا ما أود فعله .
ونظر إلى بعيد وعاد لسعيد وقال .
ــ أبحث لي عن شركة كبيرة .. أخذ منها عمل من الباطن بإحدى المدن الجديدة .. حتى وإن لم يكون لها عائد مادي .. سيعود علي بخبرة العمل في هذا المجال .. قبل الإقدام على تغيير النشاط من المكتب إلى شركة .
وأستحسن سعيد هذا وكاد أن يطير فرحا وهو يقول .
ــ ثق أنك لن تندم يوم على صداقتي ومعرفتي .
ابتسم داود في خبث وهدوء وقال .
ـ ولن تندم أنت معي أبدا .
نقر سعيد نقرته المعهودة بإصبعيه على المكتب وقال .
ـ لي عندك خدمة شخصية أرجوا أن لا تردها .
وسكت قليلا ثم عاد للحديث .
ـ إن أبني وليد .. انهي الدراسة بالجامعة .. وسأكون ممنون إن وجدة له عمل عندك .
لم يفكر داود وقال .
ـ سيكون له عمل عندي إنشاء الله .
وذهب سعيد يبذل كل جهده ، في البحث عن شركة مقاولات ، تقبل أن تعطي داود عمل من الباطن دون جدوى ، لكنه لم ييأس وقال لنفسه بعزيمة وتصميم .
ـ لن أكل ولن أمل .
ثم فكر في ترك الأمر قليلا ، ولكن لا ينساه ، وأقسم على المضي في البحث والتنقيب ، حتى يهتدي وهمس قائلا .
ـ أنه عمل سيعود عليه بالكثير .
وفى يوم كان يجلس إلى العقيد سيد الدفراوى ، وتحدث معه بشأن ولده ، ورجاه أن يساعده ويكون بجواره ، حتى يتخطى ابنه عقبة التجنيد بالجيش ، إن أمكن إعفائه أعفاه وهو مستعد معه لكل أمر يأمره به ، أو تأجيل الخدمة ، وحتى إن قبل بالخدمة ، فيكون بجواره ويوثق الصلة بين سعيد ومن للعقيد معرفة به , وإن كان لا بد من أداء الخدمة لا محال ، فيا ليتها تكون قريبة من القاهرة ، أو بالقاهرة ، بحيث لا تمنعه في نفس الوقت من عمل أخر يعمله ، ثم ترك شأن أبنه ، وإستسمح العقيد ، إن كان له علاقة بأحد أصحاب شركات المقاولات ، فليتوسط لديه ليعطي داود عمل من الباطن ، يكون بمثابة زيادة خبرة ومعرفة في هذا المجال ، وأبدى الرجل استعداده للبحث عن هذا لداود .
شعر سعيد بالراحة لهذا الحديث ، وشكره الرجل ولم يلح عليه كثيرا ، كل ما قاله أنه بهذا سيكون أدى لهما خدمة كبيرة ستسعدهما كثيرا ، ولم ينسى أن يذكره بحديثه معه بشأن أبنه والخدمة العسكرية ، وابتسم العقيد وطلب منه أن لا يتعجل .
* * *
أصبح ممتاز متلهف لمقابلة رشا أبنت سعيد ، خاصة وأنها الآن بالجامعة ، فلقاءه بها ليس عليه رقابة شديدة كما كانت من قبل ، خاصة وأنهما متفاهمان أكثر من غيرهما ، فالبنت دائما رقيقة ممتعه في حديثها ، ولم ينسى ممتاز طبيعته ، فكان يختار الأماكن البعيدة عن أعيون من لهم معرفة بهم ، حتى يكون حر وعلى طبيعته ، وفى أمان ولا تصل اخبارهما للأسرة ، والبنت كانت سعيدة بذلك ، لقد أتفق الاثنان على رأي واحد هو عدم الرضي على أسرتهما ، فقد قالت له رشا يوم وهى تتعجب .
ــ أبى ليس له عمل محدد ولا أعلم كيف نعيش ؟!!
ضحك ممتاز وقال .
ــ وأنا أبى له عمل ولكن نحن لا نعيش !!
أبتسم وسألت في حيرة
ــ كيف ؟
وقال وهو متأثر
ــ الود بيننا مفقود والصلة غير متوفرة .
قالت بتأثر .
ــ لا تتألم فنحن كما رأيت .. ومع ذلك الأمان غير موجود .
ــ أنتِ صريحة جدا .
ــ وأنت كذلك .
إن الأسرة وهى الحاضنة التي ترضع ، وغرفة الإنعاش التي تعالج ، ليس من العدل أن تترك الأبناء لكل ما هو ضال ومضل ، ولا يكون تعامل الآباء في الحياة فإفساد ، كي يشب الأبناء أقوياء ، وثمار طيبة وبذور تنبت أجود الأشجار ، فالشجرة الطيبة علاج ، والخبيثة مرض يؤدى إلى الضعف وربما إلى الموت .
إن كل ما يورثه الإنسان عائد عليه ، وما يزرعه يحصده ، والأرض الطيبة تعود على صاحبها والأولاد من بعده ، فتخيروا الأرض وانتقوا أفضل البزور ، وقوموا أركان البيت بالكلمة الطيبة والأسوة الحسنة ، والسعي على الطريق المستقيم، إن الآباء والأمهات للأولاد كتاب مفتوح ، يطلعون عليه ويأخذون منه كل حسنٍ وخبيث .
كان الحديث بين رشا وممتاز يأخذ مجالات عديدة ، وكان دائما يحن إليها ويشتاق إلى حديثها ، ويطلب منها الخروج معه وهى كذلك وحين تتحدث إليه ينصت باهتمام ، وأحيانا قليلة يقاطعها ويهمس إليها ببعض الكلمات التى كانت تطير بها فرحا ، وهو يسعد لسعادتها وكان لقائهما يفوق كل لقاء .
والغريب والعجيب إن لا أحد من الأسرتين علم عن قصتهما هذه شيء ، سرية تامة وحيطة شديدة لا مثيل لها ، طبيعة الولد في أسرته هي الهدوء ، والبنت أصغر أبناء الأسرة وكانوا يظنوا أنها لا تعي شيء ، مع أنها تعلم مثلهم وأكثر منهم .
إن زوجة داود أم ممتاز خارج النطاق ، وبعيدة عن فهم كل ما يخص زوجها ، وبطبيعة الحال انطبع ذلك على حياتها وتعاملها مع الأولاد ، لا تعلم إلا القليل عن زوجها ، ولها حدود قوية لا تتخطاها مع زوجها ، مع أنها أبسط حقوقها .
أما زوجة سعيد فحياتها كلها مع زوجها ، ترتب له وتحضر معه وتدقق في كل صغيرة وكبيرة ، وتبحث في اكتساب الأموال بحق وبغير حق ، وتترك حياة الأولاد على الهامش ، حياتهم اليومية متروكة لهم ، مما انعكس ذلك على تصرفاتهم ، فأحدث مع الأيام شرخ أتسع وازداد عمقه مع مرور الأيام ويصعب الآن تدارك الموقف ومعالجته .
إن حياة الأسرة يجب أن تكون متوازنة بين حب الأموال وحب الأولاد ، وعليك أن تتوسط بينهما ، وتنظر من أين تكتسب المال وكيف تنفقه ، وترعي باهتمامات بالغ الأبناء حق الرعاية ، لا تغفل عن النصيحة ، وتتحسس طريقهم ، وتغذى أفكارهم بالصواب، وتملأ البيت عليهم بالدفء الأسرى ، الذي هو النسيج الأول لحياتهم ، والقوة لمستقبل أيامهم ، فكن بجوارهم في أول أيامهم ، وعندما تهب عليهم كل نسمة هواء ، ولقنهم الدرس في التعامل معها ، كي يكونوا أقوياء إذا أتت عليهم الرياح ، وعلمهم السباحة في بحر الحياة حتى لا تتخطفهم الأمواج .