بسم الله الرحمن الرحيم
من مجلة النفس المطمئنة العدد ( 3 ) إبريل 1985
الاستقرار النفسي
بقلم المفكر الإسلامى - محسن الصاوى –
المسلم الحقيقى لا يعرف الخوف أو القلق
3 أسباب للسكينة التى يعمر بها قلبه
تتصاعد صيحات المطالبة بالعودة إلى الإسلام كمنهج وكشريعة فى أيامنا الراهنة .. ويتحدث الكثير عن ظاهرة المد الإسلامى على المستوى المحلى أو المستوى العالمى .. وتفرد الصفحات العديدة للحديث عن معالم الطريق للصحوة .. ويعلوا الجدل .. ويتشنج البعض فى تصوراته وفى ممارساته ويلمع البعض الأخر فى التزامه .. وتزداد المعاناة ويرتفع مؤشر القلق لدى كلا الطرفين هذا على دينه وذاك على دنياه .. ويضيع الطريق وتختلف الرؤية .. وفى محاولة أولية لوضع مقياس نجيب فيه على التساؤل عن هويتنا .. نجد أن المسلم الحقيقى هو الذى لا يعرف القلق إليه سبيلا فهو لا يخاف .. ولا يحزن ..* ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والولاية عامة وخاصة وتشمل هاتين الدائرتين المستويات المتفائلة للإيمان .
ولكن لماذا وكيف تكون هذه السكينة وتلك الطمأنينة خصيصة للمسلم وكما قال صلى الله عليه وسلم : المسلم حاله دائما فى خير .. إن أصابته نعمة شكر فكتب من الشاكرين وإن أصابته مصيبة صبر فكتب من الصابرين .. وكلتا الفئتين من الذاكرين لله .. والذكر روح وراح وراحة .. وماذا فقد من وجد الله .. وماذا وجد من فقد الله .. ينفر المسلم من عليائه إلى المتخبطين فى الظلمات ويلتزم بقول الحق . قال الله * ثم ذرهم فى خوضهم يلعبون *
والمسلم رهن ثلاثة أسباب وهى فى ذات الوقت دروب ومسالك لحالة السكينة والطمأنينة . تلك وهى ظواهر مترابطة تعتمد على علاقات تفاعل وثيقة ببعضها البعض .. تلك المعالم الأساسية هى :
0 التوظيف .. المسلم دائما يبتعد عن حالات هدر لإمكانية .. لديه واضحة لا لبس فيها .. لديه إجابة عن ذلك الذى قال عنه فيلسوف الغرب " نيتشه " إذا انكرنا وجود الله فإننا سنواجه بذلك السؤال الذى يقصم الظهر قصمة ما بعدها قصمة .. لماذا جئنا .. وإلى أين نصير .. فنجد الاستفهام الإستنكارى فى الآية الكريمة * أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * للمسلم إجابة واضحة يتجاوز بها أزمتى " الهوية الغائبة فكل طاقته مشحونه فى اتجاه العبودية الحقة لله والاستخلاف فى الأرض وهى مهمة تستدعى حشد القوى واستنفارها .. دون كلل .. المسلم لا يعرف الكسل .. العمر قصير .. والأمانة كبيرة أشفقت السماوات والأرض والجبال من حملها .. وسيحاسب عن طاقته غير المستخدمة كم أهملها .. ووضوح الطريق يعطيه استمرارية عالية من التقلبات الدورية ما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل .. والعبودية تكون التصور والتعبد والتشريح .. والخلافة تهب المسلم أن يتمكن من ترويض العالم الخارجى واستثماره ولكن دونما تدمير لبيئته الطبيعية أو البشرية كما تفعل الحضارة الغربية المعاصرة .. بل يتحكم فى هذه البيئات دونما إضرار أو إهدار .. فالخلافة تستدعى وجود الهوية .. وماذا يتبقى للخليفة أن يتبقى بمفرده .. وتوظيف الطاقات يعبر عنه فى الفقه الإسلامى بالنية .. وهى عماد تقييم الأمور .. ويعبر عن هذا التوظيف أفضل تعبير الآية الكريمة * قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين *
ويؤكده ما صرح به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : أن الرجل يؤجر حتى على لقائه بزوجته .. ما دام موظفا لهذه العلاقة وهذا اللقاء لفكره وتوجهه الأسمى .. والله مطلوبه .. ورضاه مقصوده .
0 التوازن .. الإسلام لا يعرف الإفراط أو التفريط .. لايعرف الجموح أو الجنوح .. هناك توازن دقيق بين المادة والروح .. بين ألذات والمجموع .. بين العزلة والمجتمع .. بين الثورة والسكون .. والتوازن يعنى ألذات المسلمة تعنى وظيفتها فى هذا الكون وتدارك أبعاد دورها .. وبهذا فهى تأخذ من كل شئ بقدر ولا يأخذها شئ .. فالذى يطلب المسلم وهو الله له تجليات فى كل شئ .. وبقناعة من الله حرمان .. والاقتصار على حل دون أخر تخلف عن التكمل .. فلا نحن فى وقفه مع المادة ولا نرى إلا إياها فيكون التوازن النفسى مرتبطا .. نفرح بما يأتى .. ونحزن بما نفقد .. ولكن نستثمرها كما أمر الحق .. فإن وجدنا شكرنا .. أو أثرنا .. وإن فقدنا صبرنا أو ارتحنا والكل مقام .. والخروج عن الاستغراق فى المادة يأتى بتذكر التوظيف للطاقات وتذكر أن كل ما لدينا هى ودائع يستودعها الله إيانا ويأمرنا بالتعرف فيها طبقا لشرعه .. فالمسلم ليس لديه مفهوم " الملكية " ولكن لديه مفهوم " الوكالة " فالله وكله فى نفسه وماله .. ولصاحب الحق أن يسترجع عاريته فى أى وقت ولا يسأل عما يفعل .. وبهذا التصور يتحسن المسلم بإيمانه من فتنة المال والولد أما الروح .. فالإسلام يجعل المثل الأعلى لنا جميعا وهو الرسول صلى الله عليه وسلم وهو على درجته التى بلغت قاب قوسين أو أدنى لم يعتزل الدنيا .. ولم يشجع - بل نهى- عن الرهبنة والاستغراق المستمر فى جانب عبودية التكاليف الدينية كما جاء أقوام يفتخرون بأنهم يصومون ولا يفطرون .. ويتجنبون نسائهم .. ويقومون الليل ولا ينامون .. فقال صلى الله عليه وسلم .. إنه يصوم ويفطر .. ويأتى نساءه .. ويقوم وينام ومن رغب عن سنته فليس منه .. فالعبودية من ضمن مفرداتها الاستخلاف فى الأرض فالزواج عبودية .. وسياسة الأمة عبودية .. والقيام بمصالح العباد عبودية ما دام التوظيف واضحا .. والنية قائمة .. والقصر على جانب دون أخر قصور عن بلوغ الكمال المنشود .. كما أنه يخفى بين طياته الاعتماد على نمط واحد .. مما يؤدى بالإنسان إلى ممارسة العادة بآلية العادة وهذا فقده شيئين .. الأول النية المستمرة والاستهداف اليقظ .. والثانى صدق التوجه لان للنفس حظا وافرا فيما اعتاده والله لا يقبل شريك أو السوي فيكون دخول النفس فى العبادة حجابا عن الله .. فيعيد متلذذا متصورا القرب بهما هو يعيد هواه وحظ نفسه .
0 التجاوز ... وهنا نأتى إلى ختامة المطاف فى رحلتنا مع الإيمان والنفس المطمئنة والتجاوز يعنى ألا يستغرق المسلم فى أى نشاط .. أو منحة .. أو طاعة أو معصية .. أوحال أو مقام إلى الحد الذى ينسيه أن كل شئ هالك إلا وجه الله .. وبالتالى فالذى يطلب أمامه .. والتوقف هو الخطوة .. الأولى .. للتراجع والسقوط .. على المسلم أن يواجه الحالات التى يمر بها أو تهجم عليه بالأسلحة التى وهبها الحق إياه .. فيواجه الطاعة بالشكر .. والمعصية بالتوبة والاستغفار .. والنقمة بالصبر والدعاء .. وعليه أن لا يتوه فى هذه الحالات .. فهى ترد بشكل متوالى .. بمعنى أن المصيبة تليها المنحة .. والمعصية تليها الطاعة * لمن رحم ربك * ولا شئ يستمر ..فلا داعى لأن يستغرق فى نشاط أتى لحظى .. نعبده كما أمرنا فى كل ذلك .. ولكن نحاول دائما اختراق الحدث للوصول إلى المتحدث .. وكل الصحة النفسية تأتى من التجاوز .. وكل الأمراض النفسية تأتى من الاستغراق المرضى فالعاطفة انفعال مركب .. والعشق المفرط معاودة النظر وإمعان الفكر والهلاوس والجنون استغراق فى مفردات العالم الداخلى للفرد دون تجاوز أو ضبطها بمفردات العالم الخارجى والانتحار استغراق فى فكرة عن عبثية الوجود أو عاطفة تجاه ما لا يدرك أو ينال والغضب استغراق فى رؤية مراد الفرد ورفض أى تصور والاستعلاء عليه يحصل الحلول الميسرة فالغاضب جاهل بأن أمر الله قد مضى وأمر نفسه لم يمضى .. فهو يعلن مراده على مراد الحق .. والانتماء ينبع من تجاهل مفهوم الوكالة .. ووضوح الغاية والوظيفة يبرر الحياء العاطفى إزاء الأحداث ومن عرف من قصد هان عليه ما ترك والرؤية الإسلامية الواضحة تنظم العالم الداخلى للفرد ولغيره فتوجد حد أدنى مشترك من المفاهيم والسلوكيات ينطق الفرد منه فى تفاعل مستمر مع الأخرين بدلا من الدخول فى قوقعة ألذات والانغلاق والجنون .. والإسلام يحارب الأفكار المتسلطة ويدفع بالإنسان إلى التفكير المستمر ويتفكر فى خلق السماوات والتفكير عمليته دائبة دائمة وتستدعى التطوير المستمر للمدركات والتنويع الخصب للأفكار .. والإسلام لا يعرف محاكم الحزن والإكتئاب .. يرشد مسار العلاقات الإنسانية بالاختصار من خلال الرؤية الإسلامية الواضحة يتجاوز الإنسان كل تلك المفردات وينطلق إلى غايته الأسمى ومطلوبه الأوحد .. ويجسم لنا الحديث الشريف قضية الاستغراق بتسفيهها ونبذها ( أحبب ما شئت فأنك مفارق .. واملك ما شئت فأنك تاركه .. واعمل ما شئت فأنك محاسب وعش ما شئت فأنك ميت ) .
توظيف .. توازن .. تجاوز .. فهى ثلاثية مقدسة تشكل لنا قاعدة الاستقرار النفسى الإسلامى .. تجعلنا فى حالة فوح مستمرة وحبور دائم .. قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا .. هو خير مما يجمعون .. فرح يبتعد فى أساسه ومنبعه عن الأحداث ويتعالى عليها تأتى وتروح ويبقى ثابت ببقاء مانحه وإذا أردت ألا تعزل فلا تختار ولاية لا تدوم وولاية الله للمؤمنين تأتى بالفرح المنبثق عن رحمته وفضله ..
نقل بمعرفة
طائر الليل