تابع المرحلة الثانية
الدعوة جهارا
الجزء التاسع
إسلام عمر رضى الله عنه :
وخلال هذا الجو الملبد بالغيوم والظلم أضاء برق أخر أشد بريقاً وإضاءة من الأول ، ألا وهو إسلام عمر بن الخطاب ، أسلم فى ذى الحجة سنة ستة من النبوة ، بعد ثلاثة أيام من إسلام حمزة رضى الله عنه ، وكان النبى صلى الله عليه وسلم قد دعا الله تعالى لإسلامه ، فقد أخرج الترمذى عن ابن عمر ، وصححه ، وأخرج الطبرانى عن ابن مسعود وأنس أن النبى قال : (
اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك
بعمر بن الخطاب او بأبى جهل بن هشام )
فكان أحبهما عمر رضى الله عنه .
وبعد إدارة النظر فى جميع الروايات التى رويت فى إسلامه يبدوا أن نزول الإسلام فى قلبه كان تدريجياً ، ولكن قبل أن نسوق خلاصتها نرى أن نشير إلى ما كان يتمتع به رضى الله عنه من العواطف والمشاعر .
كان رضى الله عنه معروفا بحدة الطبع وقوة الشكيمة ، وطالما لقى المسلمون منه ألوان الأذى ، والظاهر أنه كانت تصطرع فى نفسه مشاعر متناقضة ؛ احترامه للتقاليد التى سنها الآباء والأجداد وتحمسه لها ، ثم إعجابه بصلابة المسلمين ، وباحتمالهم البلاء فى سبيل العقيدة ، ثم الشكوك التى كانت تساوره ـ كأى عاقل ـ فى أن ما يدعوا إليه الإسلام قد يكون أجل وازكى من غيره ، ولهذا ما إن يثور حتى يخور .
وخلاصة الروايات ـ مع الجمع بينها ـ فى إسلامه رضى الله عنه ، أنه التجأ ليلة إلى المبيت خارج بيته ، فجاء إلى الحرم ، ودخل فى ستر الكعبة ، والنبى صلى الله عليه وسلم قائم يصلى ، وقد استفتح سورة ( الحاقة )
، فجعل عمر يستمع إلى القرآن ، ويعجب من تأليفه ، قال : فقلت ـ أى فى نفسى :
هذه والله شاعر ، كما قالت قريش ، قال : فقرأ ( إنه لقول رسول كريم ، وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ) قال : قلت كاهن ، قال : ( ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون ، تنزيل من رب العالمين ) إلى أخر السورة ـ الحاقة ـ قال :
فوقع الإسلام فى قلبى .
كان هذا أول وقوع نواة الإسلام فى قلبه ، لكن كانت قشرة النزعات الجاهلية ، وعصبية التقليد ، التعاظم بدين الآباء هى غالبة على مخ الحقيقة التى كان يتهمس بها قلبه ، فبقى مجداً فى عمله ضد الإسلام غير مكترث بالشعور الذى يكمن وراء هذه القشرة .
وكان من حدة طبعه وفرط عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج يوماً متوشحاً سيفه يريد القضاء على النبى ، لقيه نعيم بن عبد الله النحام العدوى ، ورجل من بنى زهرة ، أو رجل من بنى مخزوم فقال :
أين تعمد يا عمر ؟ قال أريد أن أقتل محمداً ، قال كيف تأمن من بنى هاشم ومن بنى زهرة وقد قتلت محمداً ؟ فقال له عمر : ما أراك إلا قد صبوت ، وتركت دينك الذى كنت عليه ، قال : أفلا أدلك على العجب يا عمر !
إن أختك وختنك قد صبوا ، وتركا دينك الذى أنت عليه ، فمشى عمر دامراً حتى أتاهما ، وعندهما خباب بن الأرت ، معه صحيفة فيها : ( طه )
يقرئهما إياها ـ وكان يختلف إليهما ويقرئهما القرآن ـ فلما سمع خباب حس عمر توارى فى البيت ، وسترت فاطمة ـ أخت عمر ـ الصحيفة ، وكان قد سمع عمر حين دنا من البيت قراءة خباب إليهما ، فلما دخل عليهما قال : ما هذه الهينمة التى سمعتها عندكم ؟ فقالا : ما عدا حديثاً تحدثناه بيننا ، قال : لعلكما قد صبوتما ، فقال له ختنه : يا عمر أرأيت إن كان الحق فى غير دينك ؟ فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأ شديداً ، فجاءت أخته فرفعته عن زوجها ، فنفحها نفحة بيده ، فدمى وجهها ـ وفى رواية ابن إسحاق أنه ضربها فشجها ـ فقالت ، وهى غضبى : يا عمر إن الحق فى غير دينك ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله .
فلما يئس عمر ، ورأى ما بأخته من دم ندم واستحيا ، وقال : أعطونى هذا الكتاب الذى عندكم فأقرأه ، فقالت أخته : إنك رجس ، ولا يمسه إلا المطهرون ، فقم فأغتسل ، فقام فأغتسل ، ثم أخذ الكتاب فقرأ : ( بسم الله الرحمن الرحيم )
فقال : أسماء طيبة طاهرة ، ثم قرأ ( طه ) حتى انتهى إلى قوله ( إننى أنا الله لا إليه إلا أنا فأعبدنى وأقم الصلاة لذكرى ) فقال : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه ؟ دلونى على محمد .
فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت ، فقال : أبشر يا عمر ، فإنى أرجوا أن تكون دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس : ( اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبى جهل بن هشام ) ورسول الله فى الدار التى فى أصل الصفا .
فأخذ عمر سيفه ، فتوشحه ، ثم أنطلق حتى أتى الدار ، فضرب الباب ، فقام رجل ينظر من خلل الباب ، فرآه متوشحاً السيف ، فأخبر رسول الله ، وأستجمع القوم ، فقال لهم حمزة : ما لكم ؟ قالوا : عمر ؟ فقال : وعمر ؟ افتحوا له الباب ، فإن جاء يريد خيراً بذلناه له ، وإن كان جاء يريد شراً قتلناه بسيفه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم داخل يوحى إليه ، فخرج إلى عمر حتى لقيه فى الحجرة ، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف ، ثم جبذه جبذة شديدة فقال : ( أما أنت منتهيا يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزى والنكال ما نزل بالوليد بن المغيرة ؟ اللهم ، هذا عمر بن الخطاب ، اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب ) ، فقال عمر : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، وأسلم ، فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد .
كان عمر رضى الله عنه ذا شكيمة لا يرام ، وقد أثار إسلامه ضجة بين المشركين ، وشعورا لهم بالذل والهوان ، وكسا المسلمين عزة وشرفا وسروراً .
روى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال : لما أسلمت تذكرت أى أهل مكة أشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة ،
قال : قلت : أبو جهل فأتيت حتى ضربت عليه بابه ، فخرج إلى ، وقال : أهلا وسهلا ، ما جاء بك ؟ قال : جئت لأخبرك أنى قد آمنت بالله ورسوله محمد ، وصدقت بما جاء به ، قال : فضرب الباب فى وجهى ، وقال : قبحك الله وقبح ما جئت به .
وذكر ابن الجوزى أن عمر رضى الله عنه قال : كان الرجل إذا أسلم تعلق به الرجال ، فيضربونه ويضربهم ، فجئت ـ أى حين أسلمت ـ إلى خالى ـ وهو العاصى بن هاشم ـ فأعلمته فدخل البيت ، قال : وذهبت إلى رجل من كبراء قريش ـ لعله أبو جهل ـ فأعلمته فدخل البيت .
وفى رواية لابن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : لما أسلم عمر بن الخطاب لم تعلم بإسلامه ، فقال : أى أهل مكة أنشأ للحديث ؟ فقالوا : جميل بن معمر الجمحى ، فخرج إليه وأنا معه ، أعقل ما أرى وأسمع ، فأتاه ، فقال : يا جميل إنى قد أسلمت ، قال : فو ألله ما رد عليه كلمة حتى قام عامدا إلى المسجد فنادى ( بأعلى صوته ) أن : يا قريش إن ابن الخطاب قد صبا فقال عمر ـ وهو خلفه : كذب ، ولكنى قد أسلمت ( وأمنت بالله وصدقت رسوله ) ، فثاروا إليه فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم ، وطلح ـ أى أعيا ـ عمر فقعد وقاموا على رأسه ، وهو يقول : افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا .
وبعد ذلك زحف المشركين إلى بيته يريدون قتله ، روى البخارى عن عبد الله بن عمر قال : بينما هو ـ أى عمر ـ فى الدار خائفا إذ جاءه العاص بن وائل السهمى أبو عمرو ، وعليه حلة حبرة وقميص مكفوف بحرير ـ وهو من بنى سهم ، وهم حلفاؤنا فى الجاهلية فقال له : ما لك ؟ قال : زعم قومك أنهم سيقتلونى إن أسلمت ، قال : لا سبيل إليك ـ بعد أن قالها أمنت ـ فخرج العاص ، فلقى الناس قد سال بهم الوادى ، فقال : أين تريدون ؟ فقالوا : هذا ابن الخطاب الذى قد صبأ ، قال : لا سبيل إليه فكر الناس ، وفى لفظ فى رواية ابن إسحاق : والله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه .
هذا بالنسبة إلى المشركين ، أما بالنسبة للمسلمين فروى مجاهد عن ابن عباس قال : سألت عمر بن الخطاب : لأى شىء سميت الفاروق ؟ قال : أسلم حمزة قبلى بثلاثة أيام ـ ثم قص عليه قصة إسلامه ، وقال فى أخره : قلت ـ أى حين أسلمت : يا رسول الله ، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا ؟ قال : ( بلى والذى نفسى بيده ، إنكم على الحق إن متم وإن حييتم ) قال : قلت : ففيم الاختفاء ؟ والذى بعثك بالحق لنخرجن ، فأخرجناه فى صفين ، حمزة فى أحدهما وأنا فى الأخر ، له كديد ككديد الطحين ، حتى دخلنا المسجد ، قال : فنظرت إلى قريش وإلى حمزة ، فأصبتهم كآبة لم يصبهم مثلها ، فسمانى رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الفاروق ) يومئذ .
وكان ابن مسعود رضى الله عنه يقول : ما كنا نقدر أن نصلى عند الكعبة حتى أسلم عمر .
وعن صهيب بن سنان الرومى رضى الله عنه قال : لما أسلم عمر ظهر الإسلام ودعى إليه علانية ، وجلسنا حول البيت حلقاً ، وطفنا بالبيت ، وانتصفنا ممن غلظ علينا ، ورددنا عليه بعض ما يأتى به
وعن عبد الله بن مسعود قال : ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر .