تابع المرحلة الثانية
الدعوة جهارا
الجزء الثامن
الشدة فى التعذيب ومحاولة القضاء على رسول الله :
ولما أخفق المشركون فى مكيدتهم ، وفشلوا فى استرداد المهاجرين استشاطوا غضباً ، وكادوا يتميزون غيظاً ، فاشتدت ضراوتهم وانقضوا على بقية المسلمين ، ومدوا أيدهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوء ، وظهرت منهم تصرفات تدل على أنهم أرادوا القضاء على رسول الله ؛ ليستأصلوا جذور الفتنة التى أقضت مضاجعهم ، حسب زعمهم .
أما بالنسبة للمسلمين فإن الباقين منهم فى مكة قليلين جداً ، وكانوا إما ذو شرف ومنعة ، أو محتميين بجوار أحد ، ومع ذلك كانوا يخفون إسلامهم ويبتعدون عن أعين الطغاة بقدر الامكان ، ولكنهم مع هذه الحيطة والحذر لم يسلموا
كل السلامة من الأذى والخسف والجور .
وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كان يصلى ويعبد الله أمام أعين الطغاة ، ويدعوا إلى الله سراً وجهراً لا يمنعه عن ذلك مانع ، ولا يصرفه عنه شىء ، إذ كان ذلك من جملة تبليغ رسالة الله منذ أمره الله سبحانه وتعالى بقوله
فأصدع بما تؤمر وأعرض عن الجاهلين ))
ـ الحجر ـ ، وبذلك كان يمكن للمشركين أن يتعرضوا له إذا أرادوا ، ولم يكن فى الظاهر ما يحول بينهم وبين ما يريدون إلا ما كان له صلى الله عليه وسلم من الحشمة والوقار ، وما كان لأبى طالب من الذمة والاحترام ، وما كانوا يخافونه من مغبة سوء تصرفاتهم ، ومن اجتماع بنى هاشم عليهم ، إلا أن كل ذلك لم يعد له أثره المطلوب فى نفوسهم ؛ إذ بدءوا يستخفون به منذ شعروا بانهيار كيانهم الوثنى وزعامتهم الدينية أمام دعوته صلى الله عليه وسلم .
ومما روت لنا كتب السنة والسيرة من الأحداث ألتى تشهد القرائن بأنها وقعت فى هذه الفترة :
أن عتيبة ابن أبى لهب أتى يوما رسول الله فقال :
أنا أكفر بـ ( النجم إذا هوى ) وبالذى ( دنا فتدلى )
ثم تسلط عليه بالأذى وشق قميصه ، وتفل فى وجهه صلى الله عليه وسلم ، إلا أن البزاق لم يقع عليه ، وحينئذ دعا عليه النبى صلى الله عليه وسلم وقال : (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك ) وقد استجيب دعاؤه صلى الله عليه وسلم ، فقد خرج عتيبة إثر ذلك فى نفر من قريش ، فلما نزلوا بالزرقاء من الشام طاف بهم الأسد تلك الليلة ، فجعل عتيبة يقول : يا ويل أخى هو والله أكلى كما دعا محمد على ، قتلنى وهو بمكة ، وأنا بالشام ، ثم جعلوه بينهم ، وناموا من حوله ، ولكن جاء الأسد وتخطاهم إليه ، فضغم رأسه .
ومنها : ما ذكر أن عقبة بن أبى معيط وطئ رقبته الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان .
ومما يدل إن طغاتهم كانوا يريدون قتله صلى الله عليه وسلم ، ما رواه ابن إسحاق عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : حضرتهم وقد اجتمعوا فى الحجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل ، لقد صبرنا منه على أمر عظيم ، فبينا هم كذلك إذ طلع رسول الله فأقبل يمشى حتى أستلم الركن ، ثم مر بهم طائفا بالبيت ، فغمزوه ببعض القول ، فعرفت ذلك فى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها ، فعرفت ذلك فى وجهه ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها ، فوقف ثم قال : ( أتسمعون يا معشر قريش ، أما والذى نفسى بيده ، لقد جئتكم بالذبح ) ، فأخذت القوم كلمته ، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع ، حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد ويقول :
انصرف يا أبا القاسم ، فو الله ما كنت جهولا .
فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به ، فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجامع ردائه ، وقام أبو بكر دونه ، وهو يبكى ويقول :
أتقتلون رجلاً أن يقول ربى الله ؟ ثم أنصرفوا عنه ،
قال ابن عمرو:
فإن ذلك لأشد ما رأيت من قريشا نالوا منه قط ، انتهى ملخصاً .
وفى رواية البخارى عن عروة بن الزبير قال :
سألت ابن عمرو ابن العاص :
أخبرنى بأشد شىء صنعه المشركون بالنبى صلى الله عليه وسلم ، قال : بينا النبى يصلى فى حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبى معيط ، فوضع ثوبه فى عنقه ، فخنقه خنقاً شديداً ؛ فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه ، ودفعه عن النبى صلى الله عليه وسلم ، وقال :
أتقتلون رجلاً أن يقول ربى الله
وفى حديث أسماء :
فأتى الصريخ إلى أبى بكر فقال :
أدرك صاحبك ، فخرج من عندنا وعليه غدائر أربع ، فخرج وهو يقول :
أتقتلون رجلاً أن يقول ربى الله ؟ فلهوا عنه وأقبلوا على
أبو بكر ، فرجع إلينا لا نمس شيئا من غدائره إلا رجع معنا
إسلام حمزة رضى الله عنه:
خلال هذا الجو الملبد بغيوم الظلم والعدوان ظهر برق أضاء الطريق ، وهو إسلام حمزة ابن عبد المطلب رضى الله عنه ، أسلم فى أواخر السنة السادسة من النبوة ، والأغلب أنه أسلم فى شهر ذى الحجة .
وسبب إسلامه :
أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم يوما عند الصفا فآذاه ونال منه ، ورسول الله ساكت لا يكلمه ، ثم ضربه أبو جهل بحجر فى رأسه فشجه حتى نزف منه الدم ، ثم انصرف عنه إلى نادى قريش عند الكعبة ، فجلس معهم وكانت مولاة لعبد الله بن جدعان فى مسكن لها على الصفا ترى ذلك ، وأقبل حمزة من القنص متوشحاً قوسه ، فأخبرته المولاة بما رأت من أبى جهل ، فغضب حمزة ـ وكان أعز فتى فى قريش وأشده شكيمة ـ فخرج يسعى ، لم يقف لأحد ؛ معداً لأبى جهل إذا لقيه أن يوقع به ، فلما دخل المسجد قام على رأسه ، وقال له :
يا مُصفر أسته ، تشتم ابن أخى وأنا على دينه ؟ ثم ضربه بالقوس فشجه شجه منكرة ، فثار رجال من بنى مخزوم ـ حى أبا جهل ـ وثار بنى هاشم ـ حى حمزة ـ فقال أبو جهل : دعوا أبا عمارة ، فإنى سببت ابن أخيه سباً قبيحاً .
وكان إسلام حمزة أول الأمر أنفة رجل ، أبى أن يهان مولاه ، ثم شرح الله صدره فاستمسك بالعروة الوثقى ،
. واعتز به المسلمون أيما اعتزاز