تابع المرحلة الثانية
الدعوة جهارا
الجزء السابع
سجود المشركين مع المسلمين وعودة المهاجرين:
وفى رمضان من نفس السنة خرج النبى صلى الله عليه وسلم إلى الحرم ، وفيه جمع كبير من قريش ، فيهم سادتهم وكبراؤهم ، فقام فيهم ، وفاجأهم بتلاوة سورة النجم ، ولم يكن أولئك الكفار سمعوا كلام الله من قبل ، لأنهم كانوا مستمرين على ما تواصى به بعضهم بعضاً ، من قولهم :
سورة( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تعقلون )
فصلت ـ فلما باغتهم بتلاوة هذه السورة ، وقع آذانهم كلام إلهى خلاب ، وكان أروع كلام سمعوه قط ، أخذ مشاعرهم ، ونسوا ما كانوا فيه فما من أحد إلا وهو مصغ إليه ، لا يخطر بباله شىء سواه ، حتى إذا تلا فى خواتيم هذه السورة قوارع تطير لها القلوب ، ثم قرأ :
( فاسجدوا لله واعبدوا ) سورة النجم ـ ثم سجد ، لم يتمالك أحد نفسه حتى خر ساجداً ، وفى الحقيقة كانت روعة الحق قد صدعت العناد فى نفوس المستكبرين والمستهزئين ، فما تمالكوا أن يخروا لله ساجدين .
وسقط فى أيديهم لما أحسوا أن جلال كلام الله لوى زمامهم ، فارتكبوا عين ما كنوا يبذلون قصارى جهدهم فى محوه وإفنائه ، وقد توالى عليهم اللوم والعتاب من كل جانب ، ممن لم يحضر هذا المشهد من المشركين ، وعند ذلك كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وافتروا عليه أنه عطف على أصنامهم بكلمة تقدير ، وأنه قال عنها ما كانوا يرددونه هم دائما من قولهم :
( تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهم لترتجى )
؛ جاءوا بهذا الإفك المبين ليعتذروا عن سجودهم مع النبى ، وليس يستغرب هذا من قوم كانوا يألفون الكذب ، ويبطلون الدس والافتراء .
وبلغ هذا الخبر إلى مهاجرى الحبشة ، ولكن فى صورة تختلف تماماً عن صورته الحقيقية ، بلغهم أن قريش أسلمت ، فرجعوا إلى مكة فى شوال من نفس السنة ، فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار وعرفوا جلية الأمر رجع منهم من رجع إلى الحبشة ، ولم يدخل فى مكة من سائرهم أحد إلا مستخفياً ، أو فى جوار رجل من قريش .
ثم اشتد عليهم وعلى المسلمين البلاء والعذاب من قريش ، وسطت بهم عشائرهم ، فقد كان صعب على قريش ما بلغها عن النجاشى من حسن الجوار ، ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم بدا من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى .
الهجرة الثانية إلى الحبشة :
واستعد المسلمون للهجرة مرة أخرى ، وعلى نطاق أوسع ، ولكن كانت هذه الهجرة الثانية أشق من سابقتها ، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها ، بيد أن المسلمين كانوا أسرع ، ويسر الله لهم السفر ، فانحازوا إلى نجاشى الحبشة قبل أن يدركوا .
وفى هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلاً إن كان فيهم عمار ، فإنه يشك فيه ، وثمانى عشرة أو تسع عشرة امرأة .
مكيدة قريش بمهاجرى الحبشة :
عز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمنا لأنفسهم
ودينهم ، فاختاروا رجلين جلدين لبيبين ، وهما :
عمرو بن العاص وعبد بن أبى ربيعة ـ قبل أن يسلما ـ وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشى ولبطارقته ، وبعد أن ساق الرجلان تلك الهدايا إلى البطارقة ، وزوداهم بالحجج التى يطرد بها أولئك المسلمون ، وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشى بإقصائهم ، حضروا إلى النجاشى ، وقدما له الهدايا ثم كلماه فقالا له .
أيها الملك ، إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا فى دينك ، وجاءوا بدين ابتدعوه ، لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعث إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم ؛ لتردهم إليهم ، فهم أعلى بهم عيناً ، واعلم بما عابوا عليهم ، وعاتبوهم فيه .
وقالت البطارقة :
صدقا أيها الملك ، فأسلمهم إليهما ، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم ، ولكن رأى النجاشى أنه لا بد من تمحيص القضية ، وسماع أطرافها جميعاً ، فأرسل إلى المسلمين ، ودعاهم ، فحضروا ، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائناً ما كان .
فقال لهم النجاشى :
ما هذا الدين الذى فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا به فى دينى ولا دين أحد من هذه الملل .
قال جعفر بن أبى طالب ـ وكان هو المتكلم عن المسلمين : أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية ؛ نعبد الأصنام ونأكل الميتة ، ونأتى الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسئ الجوار ، ويأكل منا القوى الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله وحده ،لا نشرك به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ـ فعدد عليه أمور الإسلام ـ فصدقناه ، وآمنا به ، وأتبعناه على ما جاءنا به من دين الله ، فعبدنا الله وحده ، فلم نشرك به شيئاً ، وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا ، فعذبونا وفتنونا فى ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا فى جوارك ، ورجونا ألا نظلم عنك أيها الملك .
فقال له النجاشى :
هل معك مما جاء به عن الله شىء ؟
فقال له جعفر
نعم .
فقال له النجاشى : فاقرأه على ، فقرأ عليه صدراً من ( كهيعص )
فبكى والله النجاشى حتى أخضلت لحيته ، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ، ثم قال لهم النجاشى :
إن هذا والذى جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة ، انطلقا ، فلا والله لا أسلمهم إليكما ، ولا يكادون ـ يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه ـ فخرجا ، فلما خرجا
قال عمرو بن العاص لعبد الله بن أبى ربيعة : والله
لآتينه غداً عنهم بما استأصل به خضراءهم ، فقال له عبد الله بن أبى ربيعة :
لا تفعل ، فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا ، ولكن أصر عمرو على رأيه .
فلما كان الغد قال للنجاشى :
أيها الملك ، إنهم يقولون فى عيسى ابن مريم قولاً عظيماً ، فأرسل إليهم النجاشى يسألهم عن قولهم فى المسيح ففزعوا ، ولكن أجمعوا على الصدق ، كائناً ما كان ، فلما دخلوا عليه وسألهم ، قال له جعفر
نقول فيه الذى جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم :
هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول .
فأخذ النجاشى عوداً من الأرض ثم قال :
والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود ، فتناخرت بطارقته ، فقال ::
وإن نخرتم والله .
ثم قال للمسلمين :
اذهبوا فأنتم شٌيوم بأرضى ـ والشٌيوم
الآمنون بلسان الحبشة ـ من سبكم غرم ، من سبكم غرم ، من سبكم غرم ، ما أحب أن لى دبراً من ذهب وأنى آذيت رجلاً منكم ـ والدبر
الجبل بلسان الحبشة .
ثم قال لحاشيته :
ردوا عليهما هداياهم فلا حاجة لى بها ، فوالله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على ملكى ، فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس فى فأطاعهم فيه .
قالت أم سلمة التى تروى هذه القصة :
فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاء به ، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار .
هذه رواية ابن إسحاق ، وذكر غيره أن وفادة عمرو بن العاص إلى النجاشى كانت بعد بدر ، وجمع بعضهم بأن الوفادة كانت مرتين ، ولكن الأسئلة والأجوبة التى ذكروا أنها دارت بين النجاشى وبين جعفر بن أبى طالب فى الوفادة الثانية هى نفس الأسئلة والأجوبة التى ذكرها ابن إسحاق هنا ، ثم إن تلك الأسئلة تدل بفحواها أنها كانت فى أول مرافعة قدمت إلى النجاشى .