تابع المرحلة الثانية
الدعوة جهارا
الجزء الرابع
الاضطهادات :
أعمل المشركون الأساليب التى ذكرناها شيئا فشيئا لإحباط الدعوة بعد ظهورها فى بداية السنة الرابعة من النبوة ، ومضت على ذلك أسابيع وشهور وهم مقتصرون على هذه الأساليب لا يتجاوزونها إلى طريق الاضطهاد والتعذيب ، ولكنهم لما رأوا أن هذه الأساليب
لم تجد نفعا فى إحباط الدعوة الإسلامية استشاروا فيما بينهم ، فقرروا القيام بتعذيب المسلمين وفتتهم عن دينهم ، فأخذ كل رئيس يعذب من دان من قبيلته بالإسلام ، وانقض كل سيد على من اختار من عبيده طريق الإيمان .
وكان من الطبيعى أن يهرول الأذناب والأوباش خلف سادتهم وكبرائهم ، وتحركوا حسب مرضاتهم وأهوائهم ، فجروا على المسلمين – ولا سيما الضعفاء منهم – ويلات تقشعر منها الجلود ، وأخذوهم بنقمات تنفطر لسماعها القلوب .
كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه ، واوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة فى المال ، والجاه ، وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به .
وكان عم عثمان بن عفان يلفه فى حصير من ورق النخل ثم يدخنه من تحته .
ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه منعته من الطعام والشراب ، وأخرجته من بيته ، وكان من أنعم الناس عيشا ، فتخشف جلده تخشف الحية .
وكان صهيب بن سنان الرومى يعذب حتى يفقد وعيه ولا يدرى ما يقول .
وكان بلال مولى أمية بن خلف الجمحى ، فكان أمية يضع فى عنقه حبلا ثم يسلمه إلى الصبيان ، يطفون به فى جبال مكة ، ويجرونه حتى كان الحبل يؤثر فى عنقه ، وهو يقول أحد أحد ، وكان أميه يشده شدا ثم يضربه بالعصا ، ويلجئه إلى الجلوس فى حر الشمس ، كما كان يكرهه على الجوع ، وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره فى الرمضاء فى بطحاء مكة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول : لا والله لا تزل هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد ، وتعبد اللات والعزى ، فيقول وهو فى ذلك : أحد أحد ويقول : لو أعلم كلمة هى أغيظ لكم منها لقلتها ، ومر به أبو بكر يوما وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغلام أسود ، وقيل : بسبع أواق أو بخمس من الفضة ، وأعتقه .
وكان عمار بن ياسر رضى الله عنه مولى لبنى مخزوم ، وأسلم هو وأبوه وأمه ، فكان المشركين – وعلى رأسهم أبو جهل – يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها ، ومر بهم النبى صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فقال ( صبرا آل ياسر ، فأن موعدكم الجنة ) فمات ياسر فى العذاب ، وطعن أبو جهل سمية – أم عمار – فى قلبها بحربة فماتت ، وهى أول شهيدة فى الإسلام ، وهى سمية بنت خياط مولاة ابى حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وكانت عجوز كبيرة ضعيفة ، وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة ، وبوضع الصخر الأحمر على صدره أخرى ، وبغطه فى الماء حتى كان يفقد وعيه ، وقالوا له : لا نتركك حتى تسب محمداً ، أو تقول فى اللات والعزى خيراً فوافقهم على ذلك مكرها ، وجاء باكيا معتذرا إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان )
وكان أبو فكيه – واسمه أفلح – مولى لبنى عبد الدار ، وكان من الأزد ، فكانوا يخرجونهم فى نصف النهار فى حر شديد ، وفى رجليه قيد من حديد ، فيجردونه من الثياب ويبطحونه فى الرمضاء وخنقوه حتى ظنوا أنه قد مات فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه لله .
وكان خباب بن الأرت مولى لأم أنمار بنت سباع الخزاعية ، وكان حدادا فلما أسلم عذبته مولاته بالنار ، كانت تأتى بالحديد المحماة على ظهره أو رأسه ، ليكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فلم يكن يزده ذلك إلا إيمانا وتسليما ، وكان المشركون أيضا يعذبونه فيلوون عنقه ، ويجذبون شعره ، وقد ألقوه على النار ، ثم سحبوه عليها ، فما أطفأها إلا ودك ظهره .
وكانت زنيرة أمة رومية قد أسلمت فعذبت فى الله ، وأصيبت فى بصرها حتى عميت فقيل لها : أصابتك الات والعزى ، فقالت : لا والله ما أصابتنى ، وهذا من الله ، إن شاء كشفه ، فأصبحت من الغد وقد رد الله بصرها ، فقالت قريش : هذا بعض سحر محمد .
وأسلمت أم عبيس ، جارية لبنى زهرة فكان يعذبها المشركون ، وبخاصة مولاها الأسود بن عبد يغوث ، وكان من أشد أعداء رسول الله ، ومن المستهزئين به .
وأسلمت جارية عمر بن مؤمل من بنى عدى ، فكان عمر بن الخطاب يعذبها – وهو يومئذ على الشرك – فكان يضربها حتى يفتر ، ثم يدعها ويقول : والله ما أدعك إلا سآمة ، فتقول : كذلك يفعل بك ربك .
وممن أسلمن وعذبن من الجوارى : النهدية وابنتها وكانتا لامرأة من بنى عبد الدار .
وممن عذب من العبيد : عامر بن فهيرة كان يعذب حتى يفقد وعيه ولا يدرى ما يقول .
وأشترى أبو بكر رضى الله عنه هؤلاء الإماء والعبيد رضى الله عنه وعنهم أجمعين ، فأعتقهم جميعا وقد عاتبه فى ذلك أبو أبو قحافة وقال : أراك تعتق رقابا ضعافا ، فلو أعتقت رجلا جلدا لمنعوك ، قال : إنى أريد وجه الله ، فأنزل الله قرآنا مدح فيه أبا بكر وذم أعداءه .قال تعالى : ( فأنذرتك نارا تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى * الذى كذب وتولى ) وهو أمية بن خلف ومن كان على شاكلته ، ( وسيجنبها الأتقى * الذى يؤتى ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى ) وهو أبو بكر الصديق رضى الله عنه .
وأوذى أبو بكر الصديق أيضا ، فقد أخذه نوفل بن خويلد العدوى ، وأخذ معه طلحة بن عبيد الله فشدهما فى حبل واحد ، ليمنعهما عن الصلاة وعن الدين فلم يجيباه ، فلم يروعاه إلا وهما مطلقان يصليان ؛ ولذلك سميا بالقرينين ، وقيل : إنما فعل ذلك عثمان بن عبيد الله أخو طلحة بن عبيد الله رضى الله عنه .
والحاصل أنهم لم يعلموا بأحد دخل الإسلام إلا وتصدوا له بالأذى والنكال ، وكان ذلك سهلا ميسورا بالنسبة لضعفاء المسلمين ، ولا سيما العبيد والإيماء منهم فلم يكن من يغضب لهم ويحميهم ، بل كانت السادة والرؤساء هم أنفسهم يقومون بالتعذيب ويغرون الأوباش ، ولكن بالنسبة لمن أسلم من الكبار والأشراف كان ذلك صعبا جدا ؛ إذ كانوا فى عز ومنعة من قومهم ، ولذلك قلما كان يجترئ عليهم إلا أشراف قومهم ، مع شئ كبير من الحيطة والحذر .