أسماء بنت أبى بكر
وأزمة ابنها عبد الله بن الزبير
مع الأمويين
لقد كان عبد الله بن الزبير نجيبا ذكيا ، فأحبته أمه حبا شديدا ، كاد يزيد على حبها لأولادها الآخرين .
ظهر ذكاؤه منذ الصغر ، وكان موضع تقدير من جده أبى بكر ، ومن الخليفة عمر بن الخطاب ، وعندما بلغ الرابعة عشرة من العمر اشترك فى الفتوحات الإسلامية فى العراق وفارس ، وفى الشام وفلسطين ، وفى مصر ، ثم تولى قيادة الجيوش فى شمال أفريقية .
حضر حصار الخليفة عثمان بن عفان ، ودافع عنه ضد أولئك الذين اقتحموا عليه داره ، ثم أعلن معارضته لحكم بنى أمية سنة 40 هـ ووقف ضدهم ، واتهمهم بالخروج على قواعد الحكم فى الإسلام ، وانتصر عليهم ، وأعلنت البلاد ولاءها له ما عدا دمشق وما حولها من القرى التى ساعدت الأمويين على إرجاع الحكم لهم ثانية .
فقد استطاعوا بعد حروب دامية أن يستردوا ملكهم ، وكان قد تولى قيادة جيش الخليفة عبد الملك بن مروان قائد جبار عنيد هو الحجاج بن يوسف الثقفى وكانت به جرأة وشدة وقسوة زائدة فظل يحارب عبد الله ، وينتصر عليه حتى وصل إلى عاصمة حكمه ( مكة المكرمة ) فاستولى عليها ، وظل وراء عبد الله حتى لم يبق له إلا المسجد الحرام الذى تحصن به ، وجعله مقر قيادته .
ثم دعاه الحجاج وقد تغلب عليه إلى الاستلام ، وله ما يريد من المال والأرض ومتع الحياة والعيش الناعم المريح ، لكنه أبى وامتنع وصمم على القتال ، ووضع أمامه أمرين لا ثالث لهما إما النصر وإما القتال حتى الموت .
اشتد الحصار على بن الزبير ، ولكنه استطاع قبل الفجر أن يتسلل خفية إلى دار أسماء .. ليعودها فى مرضها وليودعها الوداع الأخير .
ما أن سمعت الأم صوته حتى فتحت له ذراعيها ثم اضطجعت فى فراشها .
قال عبد الله : كيف تجدينك يا أماه ؟
قالت : ما أجدنى إلا شاكية .
داعبها عبد الله قائلا : إن فى الموت لراحة !
قالت : لعلك تتمنى الموت لى !
قال : لا والله يا أما ، ما أتمناه ولكن ..
ردت أسماء سريعا وقالت : وماذا بعد ولكن .. اسمع يا عبد الله لا أحب أن أموت إلا بعد أمرين لا ثالث لهما، إما أن تنتصر على أعدائك ، وإما أن تموت فاحتسبك عند الله .
ساد الصمت بين عبد الله وبين أمه ، ثم أخذ يشكو لها خروج أصاحبه عليه ، ولم يبق معه إلا القليل ، والأعداء قد عرضوا عليه الصلح ، وما يريد من المال والجاه إن هو استسلم لهم .
قاومت ما بها من داء وقالت : تستسلم ؟ !! يا بنى أنت أعلم بنفسك ، إن كنت على حق وتدعو إلى حق ، فأصبر عليه ، فقد قتل أصحابك عليه ، وإن كنت أردت الدنيا ، فلبئس العبد أنت ، أهلكت نفسك ، وأهلكت من معك ، كم خلودك فى الدنيا ؟ القتل أحسن والله لضربة سيف فى عز خير من ضربة سوط فى مذلة .
قال : أخاف يا أماه إن مت أن يمثلوا بجسدى .
قالت اسماء بنت أبى بكر كلمتها الخالدة ك ( لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها )
دنا منها عبد الله وقبلها فى جبينها وقال : هذا - والله - رأيى ما حدت عنه ، ولكنى أحببت أن أعلم رأيك فزدتنى بصيرة ، فأنظرى يا أماه فإنى مقتول فى يومى هذا ، فلا يشتد حزنك وجزعك على ، وسلمى الأمر لله .
وتغلبت على ما يخالجها من آلام ثم قالت : إنى لأرجو أن يكون عزائى فيك حسنا ، أخرج حتى أرى ما يصير إليه أمرك .
الوداع الأخير :
ضمت الأم ابنها لصدرها ، ورفعت وجهها للسماء وقالت : ( اللهم إنى قد سلمته لأمرك فيه ، ورضت بما قضيت ، فقابلنى فى عبد الله بثوب الصابرين الشاكرين )
ثم جعلت تحسن إليه الشهادة ، وتذكره بأبيه وجده ، وجدته صفية بنت عبد المطلب ، وخالته عائشة ، وتحبب إليه القدوم عليهم إذ قتل شهيدا .
دخل المسجد ثم صلى الصبح ، وما كاد يأخذ مكانه للرد على سهام الأعداء حتى أصابه سهم من سهامهم ، فصرخ من كان بجواره ، فحدد أعداؤه مكانه وتوالت عليه السهام ، ثم سقط قتيلا .
أمر الحجاج أن يصلب ابن الزبير فى جزع نخلة على ثنية عند الحجون ، وجاءت أسماء بنت أبى بكر حتى وصلت إليه ، وجعلت تدعو له ، وتخاطبه كأنما هو حى ، لا تتأثر ، ولا تتلجلج ، ولا يبدو عليها هلع ولا اضطراب .
وعندما علم الحجاج بوصول أسماء إلى ابنها المصلوب على الثنية جاء مسرعا إليها وأنصت إليها فسمعها تقول : - أما أن لهذا الفارس أن ينزل ؟
قال الحجاج : تقصدين المنافق يا بنت أبى بكر .
أجابت على الفور : - لا - والله - ما كان أبدا منافقا ، ولكنه - رضى الله عنه - كان صواما بالنهار قواما للصلاة بالليل ، برا بوالديه وبالمسلمين .
صلابة أسماء :
علم الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان بما قاله الحجاج ، وموقفه من بنت أبى بكر الصديق فأرسل إليه قائلا : - مالك وابنة الرجل الصالح ؟
أرسل إليها الحجاج أن تأتيه ، ولكنها أبت وامتنعت ، فأسرع إلى دارها وقال : - يا أماه .. إن الخليفة عبد الملك أوصانى بك فهل لك حاجة ؟ .
فأجابت بنت أبى بكر : - لست لك بأم .. إنما أنا أم المصلوب على الثنية ما لى من حاجة .
عاد الحجاج إلى طبيعة القاسية فقال لها : كيف رأيتنى فعلت بعدو الله ؟ .
فأجابت رضى الله عنها على الفور : - رأيتك أفسدت عليه دنياه ، وأفسد عليك أخرتك وأمام صلابة أسماء وقوة إيمانها ، وعظيم منطقها ، وثقتها بما عند الله ، أمر الحجاج بإنزال جسم ابن الزبير .
نزل عبد الله من مصلبه ، ودخلوا به على أمه ، فحمدت الله الذى لا يحمد على مكروه سواه ، ثم اشتركت فى غسله ، وأحضرت الكفن وكانت قد أعدته وهى تسمع إلى أخباره مع أعدائه وانتصاراتهم عليه ، فأدرجته فيه بعد أن طيبته بيدها ثم صلت عليه وحدها قبل أن يصلى عليه الناس .
وبعد أيام من دفن ابنها عبد الله لبت نداء ربها فانتقلت إلى دار الآخرة صابرة محتسبة مؤمنة رحمها الله ورضى عنها
الشيم الكرام